الأربعاء، 18 ديسمبر 2019

يوجين يونسكو موضوع بحث كامل جاهز للطباعة والمطالعة


يوجين يونسكو

من بين آباء مسرح العبث الكباريقف يوجين يونسكو‏-‏ الذي يحتفل العالم بمئوية ميلاده في‏23‏ نوفمبر المقبل‏-‏ متفردا وسط كتاب مسرح العبث الذي فتن بفرط غرابته ولامعقوليته أوروبا والعالم لعقود طويله من القرن الماضي‏.‏
فالقراءة المتعمقة لاعمال يونسكو من خلال مسرحياته الشهيرة( المغنية الصلعاء) والكراسي والخرتيت والعطش والجوع تكشف لنا عن تميز يونسكو مقارنة بباقي معاصريه من كتاب اللامعقول, أمثال بيكيت وآداموف وألفريد جاري وغيرهم, بنظرته الفلسفية العميقة لمفهوم الموت والحيرة, واللتين تستمدان جذورهما من كونه متمردا, مناهضا للا معني الحياة العادية, وذلك عكس فلسفة الإنتظار لبيكيت,والإحساس بالضياع والغرق في وحل العذاب النفسي, الذي تئن له الروح عند جاري وأداموف
تعرية الواقع
ويسعي يونسكو- الذي رحل عن عالمنا عام1994- في معظم نصوصه الي الاعتماد علي مغامرة العقل في التخطي والتجاوز وبناء نص يقوم علي استدعاء الحلم والخيال في بث الرؤي والقيم المعرفية والجمالية, وهو بذلك يتجاوز في نصه الواقع كونه واقعا يلامس الأشياء ظاهريا, الي واقع يخدش المفاهيم ويحفزها علي إفراز صور وقيم تتخطي في معالجتها حدود المادة وتربك معظم التصورات لأنها...تنتقد وتشاكس..وتختلف حتي مع ذاتها.
وتعتمد نصوص يونسكو علي المفارقة اللغوية التي تتم عبرها تعرية الواقع في محاولة لجر المتلقي الي عملية مواجهة مباشرة مع القيم الفاسدة والمستهلكة التي أخذت تحاصره وتفرض عليه أنماطا خاصة من السلوك والتفاعل..قد تكون نصوص يونسكو في عوالمها وتصوراتها تنتمي الي عالم وتيار( اللامعقول), ولكنها في معالجاتها وأطروحاتها تنتقي نماذج متنوعة من هموم وتداعيات الإنسان المعاصر بأزماته وغربته الذاتية والاجتماعية.
النشأة
ويوجين يونسكو من مواليد عام1912 في السادس والعشرين من نوفمبر بسلاتينية( رومانيا), من أم فرنسية أخذته إلي باريس فتعلم اللغة الفرنسية وأجادها إجادة أهلها.وفي سنة1925 عاد إلي رومانيا ليلتحق بجامعة بوخارست,وينصرف إلي دراسة الشعر الرمزي,وقام بتدريس اللغة الفرنسية ومارس النقد الأدبي
وحصل في عام1938 علي منحة لدراسة الشعر المعاصر في باريس, وقرر عندها إعداد رسالة عن فكرة الموت في الشعر الحديث.ومن خلال ماروي حول نشأة يونسكو يبدو أنه كان مصابا بعقدة الأب, وكأن أباه كان يمثل بالنسبة إليه النظام والقانون, المنع والزجر, الأمر والنهي.وهي في مجملها علي ما يبدو كانت بمثابة العناصر التي خلقت من يونسكو متمردا بامتياز, فلعل والده أسهم في نشوء حالة من العصيان الأبوي لديه, تجاه كل سلطة, ومن خلال هذه النزعة انطلق إلي آفاق رحبة من نقد العالم المعاصر له ليتعدي ذلك الي تناول مختلف مفردات الكيان الإنساني, والوجود بكل مظاهره.
وقد تأثر يونسكو بالموت انطلاقا من فاجعة موت أخيه الصغير, فقد أدرك حينها أن الإنسان ميت لامحالة, وأن الساعات التي يعدو بها في الحياة إنما تعدو به إلي الموت.
العرائس
يفر يونسكو من قيد ذلك العالم الذي كان يراه مظلما,ويتلهي عنه, حيث أقام في شارع تكثر فيه مسارح العرائس,أحب كثيرا مشاهدة العرائس وهي تتحرك وتتكلم بلسان حاملها حيث يقول في احدي مقالاته' كانت والدتي عاجزة عن انتزاعي من حلقة مشاهدي مسرح العرائس, كنت أحضر دائما وأمكث أياما كاملة,ومع ذلك ما كنت أضحك أبدا, كان مشهد الدمي يستأثر بي ويأخذني كالمشدوه,كانت تبدو لي تلك العرائس كأنها العالم بذاته,ساخر وغير محتمل أو معقول, ولكنه حقيقي,بل أكثر من الحقيقي,كانت تلك المشاهد الكاريكاتورية تزيدني إصرارا علي التمسك بفكرة فضح الحقيقة القاسية,الفجة والغليظة لهذا العالم'.
الحرب
وقد مثلت أحداث الحرب العالمية الثانية منعرجا خطيرا في حياة الإنسان, بكل مشاهدها الدامية المغلفة بالخراب والدمار, مما ولد نظرة تشاؤمية لدي يونسكو,.وقد طرحت هذه الحرب العديد من التساؤلات لدي مفكري وأدباء وشعراء هذه الحقبة: أي حصاد جناه الإنسان من الحرب؟ومن الذي قتل؟من المستفيد ومن المتضرر؟ ومن المنكسر؟ولماذا يزج بالصبية في حرب لا دخل لهم فيها؟ من المسئول عن مقتل ملايين الأبرياء؟ وما الحكمة من موت هؤلاء, اما السؤال الأهم الذي افرزته هذه الحرب التي راح ضحيتها اكثر من50 مليون شخص فهو..ما الغاية من الحياة إذا؟
كان يونسكو يطرح كثيرا مثل هذه التساؤلات في فلسفته عله يجد جوابا مقنعا,يثبت به معني الوجود البشري علي الأرض,إن كل سؤال من هذه الاسئلة كاف لتبصير الناس بحقيقة حياتهم التافهة,حيث يؤكد لهم يونسكو أن أحلامهم بعيدا عن معني الإنسانية الصرفة هي أوهام تبخرها فوهات المدافع,لتجعل من حياتهم مزيجا من العقم والقنوط واللا معقول.
الحلم
لقد نفي يونسكو كل ما يمت بصلة للمنطق المعقول,واعتبر الحياة مجرد وهم بارع,اعتقادا منه أنها تزيف الواقع وتجمح ما يجول بخاطر الإنسان, وأن الحقيقة المطلقة لا يمكن الوصول إليها إلآ من خلال الحلم والخيال.يقول في ذلك لقد اعتقدت دوما أن حقيقة الخيال أكثر عمقا وأحفل معني من كل واقع يومي, والواقعية سواء كانت اشتراكية أم لا, تكرمش الواقع وتضعفه وتزيفه, إنها لا تدخل في الاعتبار حقائقنا الرئيسية, وهواجسنا الأساسية:الحب,الموت,الدهشة.إنها تقدم الإنسان داخل منظور ناقص ومغترب.وبالتالي تبقي الحقيقة قائمة في أحلامنا وفي تخيلاتنا فقط'.
تتسم أعمال يونسكو الدرامية بالغرابة واللامعقول,حيث تتخبط شخوصه المسرحية في بحر من الإحباط النفسي العالي,وذلك برغم وجودها ضمن تركيبة إجتماعية تحكمها العلاقات والروابط الإنسانية, إنه ينفي الوجود الحقيقي للشخصية في دراما اللاتواصل, أين تظهر كل شخصية منطوية علي نفسها,منعزلة تماما عن عالمها الخارجي.
ويمكن القول إن فلسفة الموت والحياة في دراما اللامعقول عند يونسكو هي انحدار من خلجات نفسية, وانعكاس تام لعالم اللاوعي, بطريقة تلقائية علي مستوي التفكير, ولكن بتحكم مفرط في السيطرة علي دينامكية الابداع الواعي بشكل أكثر فنا وجمالا.
يهدف يونسكو من خلال عبثيته إلي الاحتجاج ضد البورجوازية,التي يفقد فيها الإنسان جميع قيمه النبيلة,وهي بالأحري دعوة إلي الانسلاخ عن قيم الحضارة الوحشية التي تسعي إلي قلب قوانين الطبيعة بالقوة التدميرية, الكامنة في مخابر الأسلحة الفتاكة.
الاسطوره والخرافه
ولا يؤمن يونسكو في فلسفته إلا بما هو خرافي ومناف للمنطق, إذ يقول: الأسطورة وحدها هي الحقيقة, والتاريخ الذي يحاول أن يحققها يشوهها ويكاد يحطمها, إن التاريخ دجال يزيف الحقائق ويزعم أنه قد نجح, إن كل ما نحلم به قادر علي أن يتحقق, الواقع من جهة أخري ليست له القدرة علي التحقق'. الأسطورة وحدها أساس فلسفة العبث عند يونسكو, الأشكال الخرافية, كأحادية العين وأنصاف الآلهة وثلاثية الرأس والأيدي هي سيدة الموقف في ذلك الواقع الغريب, إنه يرغب في مسرحة العبث عن طريق الأسطورة بحكم أنها المجال الخصب لإحداث الصدمة لدي المتلقي, يريد أن يؤسس عالما جديدا تحكمه قوانين النزعة العدمية, تتواصل شخوصه الدرامية مع ذاتها ولأجل ذاتها فقط, مشكلة بذلك دائرة عبثية مغلقة.معزولة عن عالمها الخارجي الممنطق, إنه عالم يفتقد إلي أدني نواميس الحياة الآدمية, بعيد كل البعد عن حدود المنطق المألوف.
اننا ببساطة يمكن ان نعتبر فلسفة العبث عند يونسكو ثورة متفردة في الشكل والمضمون, لاتخضع لقانون العقل والمنطق,هي إبحار في غياهب النفس العميقة بتشدد مطلق مع مواقف الحياة المختلفة, التي تستوجب الحيطة والحذر,مما ولد في نفسيته عدوانية بغيضة تجاه الحياة وما يحيط بها من غموض.
الخرتيت
وناتي الي رائعة يونسكو' الخرتيت' حيث تجري احداث هذه الكوميديا المرعبة في مدينة فرنسية صغيرة مغمورة هي في طريقها إلي الجنون, يشهد سكانها عددا من الخراتيت تتجول في شوارع مدينتهم, تعطي انطباعا بأنها هاربة من حديقة حيوانات, لكن الحقيقة التي سنتعرف عليها لاحقا, أن سكان هذه المدينة أنفسهم كان قد نمت علي جباههم فجأة قرون طويلة, وتصلبت جلودهم واستحالت سحنة بشرتهم إلي لون أخضر داكن, ومسخوا جميعا, في الآخر, إلي قطيع من الخراتيت, صار يعبث في شوارع المدينة وبيوتها محيلا إياها إلي دمار.لكن, من بين جميع سكنة هذه المدينة, يصمد شخص واحد فقط اسمه بيرانجية, يبقي محتفظا بآدميته, لأنه لم يكن قادرا علي أن يتحول إلي خرتيت, ولأنه يرفض, في نفس الوقت, الانصياع لمذهب الامتثال للتقاليد وتبلـد المشاعر.
وقد استخدم يونسكو الخرتيت كمجاز شعري للوحشية المتأصلة في الكائن البشري, وأيضا بمثابة استعارة للتعبير عن لامعني الكون, إن الخرتيت يمثل معا, طغيان الاستبداد وبربريته, ولامعقولية الواقع الذي يستطيع أن ينتج مثل هذه المسوخ.
وقد وصف يونسكو مسرحيته هذه بأنها مسرحية مضادة للنازية, وقد قيل إنها تجسد مشاعره قبيل مغادرته رومانيا عام1938, حين أعلن الكثير من معارفه من المثقفين عن ولائهم واستسلامهم للحركة الفاشية والنازية قبل وبعد الحرب العالمية الثانية, إلا أن السبب الذي دفعه حقا لكتابتها, هو ببساطة, ليس نقدا مباشرا لرعب النازي, بقدر ما هو الكشف عن ذهنية أولئك الذين استسلموا لذلك النازي واستجابوا لأفكاره وقيمه, لذا فإن وباء الخرتتة إذا جاز لنا أن نستخدم هذا التعبير, يستغل هنا كنوع من الترميز المناسب للتعبير عن تلك الجمهرة التي أنتجها ظهور النازية والفاشية علي حد سواء.
تقنيات يونسكو
يقول يونسكو هناك صورة أولية أو جوابا أوليا يطلق العنان للميكانيزم الكلي للإبداع إنني لاأعرف إطلاقا إلي أين أنا ذاهب.
لم يجد يونسكو طريقة مثلي للتعبير عن ذلك الإحساس المرير,سوي أسلوب السخرية والتهكم,واعتماد طريقة الحلم وهزة الكوابيس,واستخدام هذا التهكم للتخفيف من حدة العقم الذي كان يراه يسيطر علي الحياة بأكملها,فأنتج بذلك صورا مبتورة,يعكس فيها سخريته من الموت والحياة إلي درجة العبث.
ولعل مايثبت ذلك شخوصه المسرحية التي تبدو قلقة فوق اللزوم,تتحدث وكأنها تحلم,حديثها فارغ يكاد يخلو من اللغة,إنها تصارع الفراغ في غياب تام لمفهوم الوجود المادي للذات.مما يكسبها صفة كائنات غريبة تعيش في بحر من الخواء الذي يملأ قلب الأشياء,فنراها تعاني وتكبح جماح أنفاسها بطريقة عبثية, إنها أشبه بشخصيات الحلم التي تنبثق وحدها من عالم مهووس,دون مراقبة,فتجري بذلك الأحداث وكأنها عارضة وهمية منبعها الرئيس هو الحلم والكابوس.
ولعل خيرمثال علي ذلك مسرحيته الشهيرة المغنية الصلعاء حيث يلاحظ ذلك التداعي الحر للكلمات وذلك الترتيب اللامنطقي للأحداث والخلل البائن علي مستوي الحوارات,والبناء المتميز بلامعقوليته للشخصيات,ويفضل يونسكو أن تحل كل شخصية من شخوصه غير السوية محل الأخري لأن ذلك في رأيه لا يضعف من قيمة العمل الدرامي ذي النزعة العبثية,ويمكن ان نقول ببساطة ان كل الشخصيات المهمة عند يونسكو نمطية,وحوش خاضعة وفاقدة للإدارة.
المغنية الصلعاء
نعود الي مسرحيته الشهيرة المغنية الصلعاء التي ألفها يونسكوعام1950 ويدور موضوع هذه المسرحية حول زوجين تقدمت بهما السن, و علي الرغم من ذلك نري أن كليهما يجهل الآخر, ويعجزان عن التواصل رغم أنهما عاشا معا حياة مشتركة طويلة, و في هذا الوضع تصبح الأشياء البدهية أشياء غير مؤكدة يتطرق إليها الشك, ويمسي الناس غير متيقنين من هويتهم و معانيهم.إن المغنية الصلعاء هي محاكاة ساخرة لحواراتنا وأحاديثنا المتبادلة, ولما يسمي بالوضع الدرامي في حياتنا, ولعجزنا عن الصمت وتعد هذه المسرحية بحق نموذجا لمعني العبث في الحياة, لأنها ثورةالتمرد علي كل القيم المتعارف عليها في الحياة الإعتيادية, وقد نعتها بعض النقاد بمأساة اللغة,نظرا لما ألحقه يونسكو من ضرر بلغة المعقول,ناهيك عن التفكك الصارخ بين الشخوص,والهذيان العارم الذي يعم الفضاء
ولناخذ مثلا حيا من النص:
السيدة سميث:ذهب خالي للجبل مسرعا,لكنه لم ير المرأة الحكيمة.
السيد مارتن: الورق لأجل الكتابة,القط لأجل الفأر,الجبن لأجل الخدش.
السيدة سميث: تمضي السيارة مسرعة,لكن الفرن يستعمل لطهي الأطباق الشهية فقط.
السيد سميث: لا تكونوا كالديكة الرومية,سلموا علي المتآمر.
ماأشبه هذه الحوارات بصور الحلم المتقطعة,التي يبدومن خلالها يونسكو تاركا العنان لخياله الواسع
ويمكن أن نخلص إلي نتيجة تؤكد أحقية التجريب لدي يونسكو في حقل العبث, انطلاقا من الغاية الفنية التي تغلب علي طابع الروتين في الحياة,لأن تلقائية التخيل الخلاقة هي ذاتها جهاز اكتشاف الريادة الفلسفية عند الفنان المبدع,الذي يبحث دوما عن الجديد انطلاقا من ذاته الداخلية المعقدة,ومفهوم التلقائية لايعني أبدا الإهمال في الشعور,لأن الفنان الحقيقي يمتلك نوعا من سيطرة التحكم في إمكانياته التقنية التي يغرف بها من مادته التخيلية,ويطابقها مع انعكاساته الواعية تماما كما يفعل الراقص الماهر,وبواسطة التحكم في إمكانياته التقنية يمكن فقط تكريس التعبيرات الشخصية التي ينوي تجسيدها,وبهذا يعتبر يونسكو بعيدا كل البعد عن إهمال المظاهر التقنية لمادته التي ينهل منها,والتي تشكل مرجعيته الفكرية,إنه ضليع في فنه.فما أشبهه بذلك الحرفي الذي يتفنن بإتقان في صناعة أشكاله التقليدية الثمينة الرائعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق