السبت، 21 ديسمبر 2019

مشكلة الهوية بجميع مشتمالتها بحث موضوع كامل للقرائة والطباعة


مشكلة الهوية
حتى نرسم خريطة طريق تعزز هويتنا الوطنية، أرى بأنه لا بد من الاتفاق أولاً على مفهوم وتعريف الهوية الوطنية، وذلك حتى لا تكون عرضة لسوء التفسير والتطرف والتعصب وتغذية العِداء والتعصب ضد الشعوب والجماعات المختلفة، وحتى نُدرك إذا ما كنا فعلاً نعاني من أزمة هوية وطنية وفق معطيات ومؤشرات يمكن قياسها بعيداً عن التعريفات التاريخية القديمة والحديثة.

فالمسألة تتعلق بدراسة جذور المشكلة وتحديد فرق العمل ودور المجتمع ككل في حل هذه الأزمة بحيث يتم إيجاد خطط وإجراءات وسيناريوهات يتم التدرب عليها وسن قوانين وسياسات فعّالة وتكليف قيادة ميدانية موحدة متفرغة مع تحديد دور ومهام الجهات المساندة وآليات وإجراءات إشراك المجتمع ككل في تنفيذ الخطط التشغيلية لتلك الخطة الاستراتيجية، وفق استراتيجية شمولية تمتد على أقل تقدير لعشرين سنة قادمة.

هذه الأزمة التي تعاني منها كل دول العالم دون استثناء تدعونا للتساؤل: هل الهوية الوطنية هي مجموعة القيم والأخلاق والعادات والممارسات والمعتقدات التي تؤمن بها جماعة بشرية تجمعها أرض جغرافية مستقلة لا تخضع لأي نوع من أنواع الهيمنة وتعكس أفعالها التقيّد بنُظم وأعراف المجتمع واحترام سيادة القانون فيه أم لا؟ وإذا كان الأمر كذلك هل يستطيع أي مجتمع في العالم الحفاظ على هويته الوطنية وفق هيمنة معايير وقيم الدول والتكتلات العظمى على مختلف مناحي الحياة؟

من وجهة نظري أن الهوية الوطنية تعني الانتظام العام غير المشروط في الحفاظ على كل مكونات ومكتسبات ومصالح وقيم وعادات وتقاليد ونظم مجتمع يحمل أفراده الجنسية نفسها في دولة ما وفق مبدأ أخلاقي في إطار مجتمعي متماسك والالتزام بما ينص عليه الدستور والقوانين المحلية والدولية واحترام المبادئ الإنسانية المشتركة والسماح بالاختلاف وتنوع الأفكار والرأي الآخر ومعتقده ووجهة نظره إن لم يمس الاختلاف والقيم والآراء والأفكار سيادة ووحدة الوطن مع الاعتراف المطلق بأن تربية الأجيال على حب الوطن وحبها له وطاعتها لولاة الأمر والتضحية للحفاظ على مكتسباته وهويته والدفاع عن أراضيه وحدوده هي مسلمات لا تقبل التفاوض وتقديم التنازلات.

ومن جانب آخر أن الهوية الوطنية منظومة مركبة معقدة ليس بالسهولة أن يتم تجاهل معطيات التشابك فيها، فهي تحتوي بصورة طبيعية على مقومات وممارسات الولاء والانتماء واتّباع عادات وتقاليد وقيم معينة يتحكم بها علاقة الفرد بخالقه والنفس والأسرة ومحيطه العائلي والقبلي والمجتمعي في القرية، أو الحي والمدينة ومن ثم الدولة ككل في ما يطلق عليه بصورة كلية مجتمع الهوية الوطنية، ولذلك، فإنه لنجاح أي خطة توضع لحل مشكلة الهوية الوطنية والانتماء يجب أن لا يغفل أي عنصر من عناصر مكونات التفاعل للبناء والمحافظة على الهوية الوطنية بصورة فردية ومجتمعية لا سيما في ما يخص العامل المشترك الأكبر، ألا وهي اللغة وأهمية الحفاظ عليها كوسيلة تُخاطب لفظي وخطي وموروث أزلي.

ومن المتناقضات الغريبة في هذا الطرح أن الكثير ممن يطالبون بتعزيز الهوية الوطنية تتم معظم اجتماعاتهم الرسمية باللغة الإنجليزية، ومن المضحك والمبكي في آن واحد أن حتى بعض الاجتماعات التي تتحدث عن الهوية الوطنية نصف ما يناقش فيها يدور باللغة الأجنبية، وعندما تفتح المذياع أو القناة التلفزيونية المحلية تسمع جميع اللهجات ما عدا اللهجة الإماراتية، وكأنها معوق يمنع من وصول الرسالة للمستمع أو المشاهد باسم تعدد الجنسيات والمواطنون أقلية ، فلا أرى ضرراً في توطين الوجه أو الصوت الظاهر في الإعلام.

فإن القضية الأكثر أهمية في مسألة الهوية الوطنية هي أنها ليست مجرد مظهر خارجي لا يمثل كيان الإنسان، ولكنها تصرف وفكر وسلوك ومنظومة أخلاقية، فتجد من يتحدث عن الهوية الوطنية في كل مكان لا يحدث أبناءه باللغة العربية، ولا يطبقون ما ورثوه من أجدادهم من عادات وتقاليد عريقة إلا في ما ندر، فهم لا يحترمون قواعد السير، ولا يقفون في الصف النظامي لإنجاز معاملاتهم، وينظرون للآخرين نظرة تكاد تكون طبقيه بغيضة والتحدث والتعامل بكبرياء يصل لحد الغرور والتعالي مع البشر الذين لا يعكسون شخصياتهم من حيث الشكل أو القبيلة أو المنطقة الجغرافية أو المكانة الاجتماعية أو العلمية ومنهم من يتقاعس في أداء مهنته بإخلاص، ويعرقل تقدم الآخرين في محيط عمله، ولا يتعاون معهم ليظهر بمظهر البطل المخلص وسيد إنجاز وتفوق ويخذل قسمه أو إدارته أو وزارته في شخصه. فموضوع الهوية الوطنية متشعب للغاية في حقيقة الأمر، فلا الأم التي تترك أبناءها لتربية المربية الفلبينية تساهم في الحفاظ على الهوية، ولا الأب الذي يهمل تربية أبنائه ويسيء معاملتهم، أو لا يجالسهم إلا في وقت محدود وغير نوعي يكاد لا يذكر، ولا يطلعهم على أهمية موروثنا الإماراتي، فهو أو هي لا يدركون مدى الضرر الواقع من جرّاء سلوكياتهم وممارساتهم على منظومة الحفاظ على هويتنا الوطنية .

الهوية الوطنية ليست شعارات نرددها، أو وقوف طلاب المدارس لسماع النشيد الوطني، أوحفاظ أبنائنا على الزي الوطني وتنفيذ برامج لتعزيز الهوية، ومن يضع البرامج وينفذها ويقيس مدى نجاحها ويقوم بالدراسات ويشرف عليها ليس من مواطني الدولة المدرك للمعنى الحقيقي للهوية الوطنية الإماراتية وأهميتها في بقاء كيان صرح الدولة.

فيبدو لي أن الهرم مقلوب ولا بد من البدء بتشييد الأساس على أسس وطنية ليكون البناء مستداماً ومن دون شوائب وعيوب رئيسية تذكر، وتزامناً مع البناء لا بد للجهات المعنية من تثقيف المواطن وإقناعه وتدريبه وإلزامه بقوانين آليات العيش في هذا البناء دون إيقاع ضرر به، ليحميه من حر الهجير، وهبوب العواصف المدمرة.

وفي حالة حدوث فيضان أو وقوع زلزال يبقى البناء شامخاً، وفيه ما يكفي لبقائهم على قيد الحياة، فالهوية الوطنية هي جوهر بقاء وتطور الأمم، وليست إجراء أو مشروعاً تصحيحياً فقط.

وإذا كنا ننادي بالاحترافية والتخصص في كل أمر لتأديته على أكمل وجه، فلماذا لا تُستحدث هيئة اتحادية تعنى بالحفاظ على الهوية الوطنية، ومركزٌ بحثيٌ متخصص يدار من قبل كفاءات مواطنة تدرك عمق المشكلة لتضع حلولاً محلية غير مستوردة أو تتم أَمْرتَتَّها لتناسب حجم وطبيعة المشكلة.
مشكلة القيم
من الأمور الثابتة والمؤكدة أن الخلق القويم والسلوك الحميد والتنشئة الدينية السليمة التى تحافظ على إنسانية الإنسان، تؤسس أعمدة الحضارة والتقدم والرقى وتفوق الأمم وسمو الشعوب.
والقيم الاجتماعية هى منظومة الحياة تؤثر فى حياة البشر وفى سلوكياتهم وتحدد شكل العلاقات الإنسانية وأنماط التفاعل، وهى صمام الأمان داخل التجمعات البشرية. وتمثل القيم أدوات الضبط الاجتماعى ومحركات السلوك وتفرز آليات الاستقرار والتوازن فى المجتمعات البشرية. وإذا تعرضت منظومة القيم الاجتماعية إلى هزات أو تحولات غير مرغوب فيها أو إنتابها نوع من الخلل، نتيجة عوامل وظروف محددة، تدهورت أحوال البشر وعم الفساد فى الأرض وشعر الناس - كما يشير ابن خلدون - بفقدان التوازن وعدم الثقة وضياع الرؤى، وانتابت البشر حالة. من الإحباط والعجز وعدم الرضى والقلق والتوتر، وشاعت بين الناس حالة. من التردي والوهن وسادت الفوضى الأخلاقية والسلوكية وفقد النظام الاجتماعى قدرته على البقاء، وظهرت حالة. من اللامعيارية تتسم بعدم التوازن وفقد الناس التنظيم والالتزام وضعف لديهم الشعور بالإنتماء للوطن . كل ذلك يعنى الإحساس بوجود أزمة أو حالة. يطلق عليها علماء الاجتماع "أنومى" أو اللامعيارية الأخلاقية.
وفى تفسير تلك الأزمة قدم المهمومون ورجال الفكر الاجتماعى والباحثون فى قضايا المجتمع رؤى متعددة تتفق وطبيعة الأطر المعرفية والمنظورات الأيديولوجية التى يتبناها كل منهم، فهناك من يرجع الأزمة الأخلاقية والسلوكية إلى عوامل داخلية مرتبطة بالبنية الداخلية للمجتمع، وهناك من يركز على عوامل خارجية مرتبطة بما يأتى من خارج المجتمع. ويختلف الباحثون فى تحديد تلك العوامل وأوزانها وتأثيراتها على سلوكيات الأفراد، فمنهم من يؤكد ان الأزمة الأخلاقية هى فى الأساس نتاج لعوامل مادية، حيث يرصدون الصعوبات الاقتصادية التى تواجه الناس خلال مسيرة حياتهم المعيشية وتقف حائلاً أمام احتياجاتهم الأساسية. فالفقر والبطالة وضعف المرتبات وتفاوت الدخول وأرتفاع أسعار السلع وقلة الخدمات وزيادة مستوى المعيشة والقهر المادى والاستغلال الاجتماعى وعجز الأفراد عن تدبير أمور حياتهم المعيشية، كل ذلك وغيره يؤدى إلى تشكيل أنماط سلوكية لامعيارية ويخلق نوعا من الخلل الذى يتفاقم عبر الزمن، بل قد يصل إلى خلق أشكال من الإنحراف حيث يحاول كل فرد البحث عن وسائل غير مشروعة للتغلب على تلك المشكلات المادية والضغوط الناتجة عنها.
وإذا كانت العوامل المادية لها تأثيرات شتى فى تشكيل سلوكيات البشر، فإن هناك عوامل أخرى غير مادية تلعب دورا هاما فى تكوين ظواهر اجتماعية مرضية من أهمها الفساد والتسيب واللامبالاة وعدم الانضباط والفوضى الأخلاقية وزيادة حدة العنف والتطرف بأشكاله المختلفة، وظهور أنواع من الجرائم المنظورة وغير المنظورة كالرشوة والبلطجة وغيرها من الأفعال التى تدل على تدهور القيم الاجتماعية وتحولها من قيم إيجابية بناءة إلى قيم سلبية تضعف من قدرات البشر وتهدم كيانات المجتمعات البشرية. وهنا تشير بعض الدراسات باصابع الاتهام إلى الأبعاد الثقافية، فالهيمنة الثقافية أو حتى الاحتكاك بثقافات أخرى من خلال وسائل الإعلام، أو التغلغل الفكرى والمحاكاة والطموح الاستهلاكي الذى يتزايد بحدة وتبنى قيم وافدة ومغتربة أو سلبية تشكل - من وجهة النظر هذه - محور الأزمة الأخلاقية والسلوكية التى يشعر بها الجميع فى المجتمع.
والسؤال الذى يطرح نفسه الآن يتعلق بالأزمة الأخلاقية والسلوكية فى المجتمع المصرى؟ مظاهرها، وأبعادها التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بالإضافة إلى الأبعاد السياسية والتشريعية والإدارية والأمنية، وذلك بهدف محاولة لوضع تصور إستراتيجي مقترح يساعد على تجاوز الأزمة أو التخفيف من أثارها السلبية على المجتمع المصرى. وقد رأينا من الأفضل أن تحتوى الاستراتيجية الموضوعة على مقترحات مرحلية متدرجة تأتى على النحو التالى: الأولى قصيرة المدى والثانية متوسطة المدى والثالثة بعيدة المدى، وإن كانت تشير إلى حلقات مترابطة لا انفصال بينها.
أولاً: الأزمة الأخلاقية والسلوكية: المفهوم والرؤى: تشير معظم التيارات الفكرية - على اختلاف مناحيها - إلى أن هناك محنة أو أزمة أو خللاً أو تدهوراً يصيب الكيان المصرى فى الزمن المعاصر. فلا يبدأ حديث بين طرفين أو أكثر إلا وتظهر تلميحات أو عبارات أو نكات أو إشارات تشير إلى وجود مظاهر ومؤشرات لمواقف الأزمة وتتضح فى مؤشرات منها: عدم الرضى عن الحياة أو المعيشة. فماذا "حدث للمصريين"؟ وماذا حدث فى مصر؟ وهل تحولت القيم من الإيجابية إلى السلبية؟ ولماذا؟ وفى أى اتجاه؟ للإجابة على كل هذه التساؤلات يجدر بنا أولاً الاتفاق على معنى كل من المفاهيم التالية: الأزمة، القيم، والأزمة الأخلاقية والسلوكية.
فى معنى الأزمة، القيم، والأزمة الأخلاقية: قد يبدو للوهلة الأولى أن تحديد معنى الأزمة، مسألة سهلة ولا تحتاج إلى جهد، غير أن الواقع يشير إلى صعوبة ذلك، فبرغم من شيوع كلمة أزمة وتداولها المستمر فى خطابنا اليومي إلا أنها من المفاهيم صعبة التحديد ربما لأنها مفهوم نسبى، وله مؤشرات عديدة ومتباينة ويختلف من موقف لآخر. لذلك يشير البعض إلى أن الأزمة هى موقف فشكل يتطلب رد فعل الكائن الحى لاستعادة توازنه. أو أنها موقف يتحدى قوى الفرد ويدفعه إلى إعادة التوافق مع ذاته أو مع بينته أو مع كليهما.
والأزمة هى نوع من التحدي نظراً لما تفرضه من ضغوط حياتية اجتماعية ونفسية على الفرد.
وهى فى أبسط معانيها تشير إلى حدوث نوع من الخلل وعدم التوازن بين عناصر النظام الاجتماعى وما يحتويه من علاقات إنسانية وتوجيهات عامة وقيم ومعايير أخلاقية راسخة ومتأصلة. والأزمة بهذا المعنى تمثل مشكلاً يتشكل عبر الزمن من مصادر كامنة فى البناء الاجتماعى ومتأثرة بمجموعة من العوامل والأبعاد المتداخلة تعوق التواصل بين الأجيال وتلغى العلاقات الطبيعية بين البشر (العلاقات الرأسية والأفقية)، وتهدم أسس الاستقرار الاجتماعى، وتعبر عن تقلبات اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو كل ذلك فى أن واحد. وتظهر عادة خلال نقلات حضارية وحراك اجتماعي صعوداً وهبوطاً تؤثر بدورها فى هذه الكيانات أو النظم مما يجعلها تشكل حالات من التوتر والقلق والشعور بالعجز وعدم التواصل والفشل فى تحقيق التوازن بين الغايات والوسائل.
ويشير مفهوم القيم إلى كل صفة ذات أهمية لاعتبارات اجتماعية أو أخلاقية أو نفسية أو جمالية.
فالقيم عبارة عن تصور مجرد وعام للسلوك، يشعر أعضاء الجماعة الاجتماعية نحوه بارتباط انفعالي شديد، ويتيح لهم مستوى للحكم على الأفعال والأهداف الخاصة. وتتصف القيم بصفة الجماعية فى الاستخدام. وتمثل الموجهات العامة للسلوك أو العمل. ومعنى ذلك أن مجموعة القيم التى يدين بها شخص (أو جماعة) هى التى تحركه نحو العمل (الفعل) وتدفعه نحو السلوك بطريقة معينة ويتخذها مرجعه فى الحكم بأن سلوكه مرغوب فيه أو غير مرغوب فيه (مستهجن من قبل الجماعة أو المجتمع). ولا شك أن ذلك يعود على المجتمع خيراً أو شراً طبقاً لنمط السلوك وكيفيته والمرجع القيمى له. والقيم الأخلاقية الأصيلة (الإيجابية) هى مجموعة صفات معيارية تؤدى إلى الارتقاء بالحياة الاجتماعية والنهوض بمستويات المعيشة ورقى السلوك الإنساني. وكلما كان الإطار القيمى بموجهاته يضم مجموعة من المبادئ الأخلاقية الإيجابية ويبتعد عن ما هو سلبى، يشيع النشاط الإنساني وتسود الحيوية بين أفراد المجتمع حيث يصبح هناك قبول عام واتفاقات صامته. حول أفكار ومعارف ومعتقدات وطرائق للتفكير وعادات وأساليب للحياة وموضوعات جمالية من أجل صالح الفرد والمجتمع. والقيم الأخلاقية ما هى إلا انعكاس لطرائق التفكير عند الناس ولأساليبهم التى يفكرون بها فى سياق اجتماعي محدد وفى فترة زمنية معنية. كما أن القيم الأخلاقية تشكل منظومة ترشد الأفراد وتحدد سلوكياتهم وتوجه أحكامهم واتجاهاتهم فيما يتصل بما هو مرغوب فيه أو غير مرغوب فيه من أشكال السلوك فى إطار ما يضعه المجتمع من قواعد وأسس ومعايير وشروط يستمدها من مصادر مختلفة (دينية وثقافية وموضوعية).
والقيم أنواع، منها ما هو إيجابي ومنها ما هو سلبى، ومنها ما هو إلزامي (مقدس) ومنها ما هو تفضيلي أو مثالي. وبرغم هذا التقسيم، إلا أن كل نوع غير مستقل عن الآخر، حيث هناك تداخل وتشابك بين المقدس والتفضيلي من القيم. ومن المهم أن يكون هناك اتفاق وعدم تناقض فيما بينها، حيث إن عدم التجانس يؤدى إلى ظهور أنواع من الخلل في المعايير السائدة، وهنا تظهر الأزمة الأخلاقية التى تتضح في المواقف الحياتية المختلفة. والأزمة الأخلاقية بهذا المعنى تعبر عن نوع من الخلل يصيب الثوابت الإيجابية والمبادئ والمعايير الدارجة والمقبولة فى المجتمع والتى تنص عليها الأديان والتراث الثقافى الإيجابي وتعمل فى صالح الاستقرار والرقى والتطور. وتحدث الأزمة الأخلاقية حين يفقد الناس الشعور بالتوازن بين ما هو مثالي وما هو واقعى، حين تحدث فجوة بين أهداف المجتمع ووسائل تحقيقها وبين طموحات الأفراد ومدى تقبلهم لكل من أوضاعهم الفعلية والوسائل الواجب اتباعها لتحقيق تلك الطموحات.
وتنعكس الأزمة الأخلاقية فى سلوكيات الناس وتتبلور فى مؤشرات ومظاهر نعرض لها فى الصفحات التالية:- ثانياً: الأزمة الأخلاقية والسلوكية: المظاهر والمؤشرات: نظرا لتشابك أزمات المجتمع، يلاحظ المدققون مؤشرات ومظاهر متعددة للازمة الأخلاقية والسلوكية، فيرى رجال الفكر الاقتصادي أن هناك نوعا من الخلل الهيكلي، حيث يرصدون مظاهره فى: إختلال توزيع الدخل، وإتساع الهوة بين مستويات الدخول، وانخفاض معدل الادخار والاستثمار، وزيادة الطموح الأستهلاكي في الوقت الذي يعانى فيه المجتمع من إشباع الحاجات الأساسية لأفراده، والاختلال المستمر في ميزان المدفوعات، والاعتماد على الخارج في السلع الغذائية. ويؤكد رجال الاقتصاد أن تأثير ذلك على سلوكيات الناس فى الاتجاه السلبى عظيم حيث يفقد الأفراد القدرة على العمل المنتج، والشعور بحالة من الاغتراب، وزيادة حدة العنف والتطرف، والانصراف نحو البحث عن وسائل للعيش حتى لو كانت بطرق غير مشروعة، مما يزداد معه السلوك الانحرافي والانصراف عن العملية الإنتاجية وبالتالى التدهور المستمر لإمكانيات المجتمع وانخفاض فى قدرات البشر.
ويرصد رجال الفكر الاجتماعي والمهمومون بقضايا المجتمع ومشكلاته مظاهر الأزمة الأخلاقية والسلوكية الشائعة فى المجتمع، فهناك الفساد بأشكاله المختلفة وشيوع حالة من عدم الانضباط على كافة المستويات، والتسيب واللامبالاة وازدياد أنماط من الجرائم لم يكن المجتمع المصرى يعرفها من قبل (جرائم المحرمات، وجرائم المال، والنصب مثل شركات توظيف الأموال وغيرها.). ويشتكى علماء الاجتماع من ظواهر العنف وثقافة الزحام وتفكك الأسر وإعلاء القيم المادية وإختفاء قيم التعاون والتسامح والتساند الاجتماعى، وانتشار سلوكيات سلبية مثل البحث عن الكسب السريع من أعمال غير منتجة (السمسرة والمضاربة وبناء العمارات التى تنهار بسبب عدم مطابقتها للمواصفات الهندسية، وتدهور نمط الحياة فى المدينة والقرية، وزيادة حدة التلوث والضوضاء، والقبح واعتماد القرية على المدينة بدلاً من العكس الذى كان سائداً من قبل، وزحف المبانى السكنية على الأرض الزراعية وتجريف أجود الأراضى وتحويلها إلى كتل خرسانية صماء، وازدياد تغريب الحياة الاجتماعية، سواء انعكس ذلك فى أنماط السلوك اليومي) وفى اللغة المتداولة، وانتشار ثقافة المحاكاة والتقليد لكل ماهو أجنبى وتحقير ما هو وطنى. إلخ ذلك.
ويعانى السياسيون من مظاهر الأزمة الأخلاقية والسلوكية التى تتمثل فى ضعف المشاركة فى الحياة السياسية، وعزوف أفراد المجتمع عن المشاركة فى الانتخابات، وانتشار التغريب السياسى والاجتماعي، وانشغال الناس عن القضايا المصيرية بمسائل أخرى ليست ذات أهمية، وغياب الأهداف القومية والرؤى العقلانية والعجز عن ممارسة الحوار البناء.
ويرصد المثقفون مظاهر الأزمة ومؤشراتها الثقافية فى سيادة سلوكيات هابطة تبحث عن الجنس وتستجيب للغرائز الدنيا، وانتشار لأنواع من الفن الرخيص واختفاء الفن الراقى والرفيع، وانتشار اللغة الهابطة بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، وشيوع التفكير الخرافي، واللاعقلانية فى التفكير الدينى، وتدنى مستوى التعليم، وانحطاط حال المؤسسات التربوية.
وهكذا نرى أن مظاهر السلوك الاقتصادي والاجتماعى والسياسى التى تشكل ما نطلق عليه الأزمة السلوكية تتعلق بتغيير فى القيم الاجتماعية حيث تعرض المجتمع المصرى إلى مجموعة تغيرات نتج عنها إحلال قيم سلبية جديدة أو مستحدثة أثرت على منظومة القيم وأدت إلى تشكيل منظومة جديدة تتسم باللامعيارية وتشكل نوعا من الأزمة أو الخلل ينتاب البناء الاجتماعى بأكمله مثل: غلبة القيم المادية على علاقات الأفراد، فأصبحت المصالح هى التى تحدد شكل العلاقات الإنسانية، وأضحت قيمة الكسب السريع هى الإطار الحاكم فى المجتمع وأدى ذلك إلى الاستخفاف بأهمية تجويد العمل واللامبالاة والاستهتار حتى فى أرواح الناس (انهيار العمارات، سلوكيات الحرفيين فى كافة المجالات) وكان من نتائج ذلك على الأسرة ما هو عظيم حيث توارت قيم الأصالة والمحبة والإخلاص والمودة والتعاون بين أفراد الأسرة وتحول كل عضو داخل الأسرة إلى شيء مادى حيث اختفت لديه المشاعر الوجدانية وأثر ذلك فى سلوكياته ورد فعله فى مواقف الحياة المختلفة (يتضح ذلك مثلا فى اختيار شريك الحياة وغياب التعاون بين الأفراد والاهتمام بالمصالح الفردية. إلخ ذلك).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق