الأحد، 5 يناير 2020

الخديوي اسماعيل موضوع بحث للطباعة والمطالعة


الخديوي اسماعيل
نشأتة
هو اسماعيل ابن ابراهيم ابن محمد على ، وهو ثانى انجال ابراهيم باشا ، من والده غير والدتى اخويه الاميرين احمد رفعت ومصطفى فاضل .
ولد الخديوى اسماعيل فى 31 ديسمبر سنة 1830 ، فى قصر المسافرخانة بالقاهرة بالجمالية ، واهتم ابوه بتربيته ، فتعلم مبادىء العلوم واللغات العربية والتركية والفارسية ، بالاضافة الى القليل من الرياضيات والطبيعة ، وارسله ابوه وهو فى سن الرابعة عشر الى فينا عاصمة النمسا ، لكى يعالج بها من رمد صديدى اصابه ، وكذلك لأستكمال تربيته ، وقد بقى بها لمدة عامين ، ثم سافر بعد ذلك الى باريس لينتظم فى سلك البعثه المصرية الخامسة ، فأنضم الى تلاميذها ، وكان من بينهم الامير احمد رفعت ( شقيقه ) والاميران عبد الحليم وحسين وهما من انجال محمد على ، ونال فى باريس حظا من العلوم الهندسية والرياضية والطبيعية ، واتقن اللغة الفرنسية تحدثا وكتابة ، وبهرته باريس ومافيها من جمال وروعة ومن هنا نشأت ميوله الفرنسية ، التى لازمته طوال حياته ، وجعلته يسعى فى ان يجعل القاهرة باريس الثانية ، حتى لو اضطره هذا الى مد يده الى القروض التى اثقلت كاهل البلاد فيما بعد .

عاد بعد ذلك الى مصر فى عهد ولاية ابيه ابراهيم باشا ، ولما مات ابراهيم خلفه فى الحكم عباس الاول ، وكان يحقد على عمه ، فلما تولى الحكم شعر اسماعيل واخوته بكراهية عباس لهم ، ثم مات محمد على ، واشتد الخصام بين اسماعيل وبقية الامراء على تقسيم ميراث جده ، وارتحل اسماعيل وبعض الامراء الى الاستانه ، وعينه السلطان عبد الحميد عضوا بمجلس احكام الدولة العثمانية ، وانعم عليه بالبشاوية ، ولم يعد الى مصر الى بعد مقتل عباس فى اثناء حكم سعيد .
ولما عاد ن الاستانه لقى من عمه سعيد عطفا كبيرا ، وعهد اليه برأسه ( مجلس الاحكام ) الذى كان اكبر هيئه قضائية فى البلاد ، واوفده سعيد باشا سنة 1855 فى مهمة سياسية لدى الامبراطور نابليون الثالث تتعلق بسعى سعيد لدى الدول فى توسيع نطاق استقلال مصر بعد اشتراكها مع الحلفاء فى حرب القرم ، فأدى اسماعيل تلك المهمة بما امتاز به من ذكاء ولباقة ، ووعده نابليون الثالث بتأييد مقترحه فى مؤتمر الصلح بباريس ، ولكنه لم يحقق وعده ، وكذلك قابل البابا ( بيو التاسع ) فى رحلته موفدا من قبل الخديوى سعيد ، فأكرم الحبر الرومانى مثواه ، قم عاد الى مصر . 
                                                                                                                                                 
توليه الحكم                                                                                                                                
ولم يكن اسماعيل يفكر اثناء حكم سعيد باشا فى ان يؤول اليه العرش من بعده ، اذ كان يحجبه عنه اخوه الاكبر الامير احمد رفعت ، ولكن حادثا فجائيا ساقته الاقدار سنة 1858 ازالت العقبه القائمه فى سبيله ليكون وليا للعهد ، ذلك ان سعيد باشا اقام بالاسكندرية حفلة دعا اليها امراء البيت العلوى ، فلبوا الدعوة ومن بينهم احمد رفعت ، اما اسماعيل قد اعتذر عن الحضور لوعكة صحية اصابته ، وفيما كان الاميران عبد الحليم واحمد رفعت عائدين الى القاهره بقطار خاص مع حاشيتهما ، سقطت العربة التى تقلهما فى النيل عند كفر الزيات ، فغرق احمد رفعت ، ونجا عبد الحليم ، فأصبح اسماعيل بعد غرق اخيه ولى عهد الاريكه المصرية بحكم نظام الوراثه القديم . 
                                                                                                                                    ولما توفى الخديوى سعيد خلفه اسماعيل على عرش مصر فى 18 يناير سنة 1863             ولما اسماعيل يتولي حكم مصر 1863م من تاريخ مصر                                                                                                                                    
                                                                                                                                                                                                                      المجتمع في عهد الخديوي إسماعيل
يصح أن يسمى عصر إسماعيل عصر التجدد الاجتماعي ، ففيه أخذت الهيئة الاجتماعية المصرية تتطور إلي حالات جديدة ، وتقتبس من أساليب المجتمع الأوروبي وعاداته ، ومال الناس إلي محاكاة الأوروبيين في المسكن والملبس والمأكل وسائر أنماط الحياة ، وكان انتشار التعليم من العوامل التي ساعدت على هذا التطور ، فإن الطبقة المتعلمة بحكم دراستها علوم أوروبا ولغتها صارت طليعة الطبقات الأخرى في تقليد الأفرنج واقتباس عوائدهم وأساليبهم ، فأخذ الناس من كل ذلك مزيجاً من النافع والضار.
ففي المسكن شرعوا يبنزن البيوت على النظام الأوروبي ، ويهجرون التخطيط القديم الذي درجوا عليه في خلال العصور ، ولا شك أن التخطيط الأفرنجي أدعى إلي توفير أسباب الصحة والنظافة والراحة والنظام ، ولكن إلي جانب هذه المزايا فقد البناء ذلك الطراز العربي الجميل الذي كان يتجلى في قصور خاصة ، والذي يعد بلا مراء آية في الفن ، فهذه القصور أخذت تتلاشى مع الزمن حتى صار ما بقي منها معدوداً من الآثار القديمة ، ثم عادت الطبقة الممتازة إلي إحياء الطراز العربي وإدخاله في قصورها الحديثة.

وهجر المتعلمون ومن حاكاهم من السراة والأعيان الملابس الشرقية ، كالجبة والعباءة والعمامة ، وارتدوا الطربوش والبدلات الإفرنجية ، وتضاءلت الأزياء القديمة وحلت محلها الأزياء الأوروبية ، فيما عدا القبعة ، فقد استمسك المصريون بالإعراض عنها.

ودخلت العوائد الأوروبية في أساليب المآكل والولائم ، فأخذ الناس يمدون الموائد ويتناولون الطعام على النمط الإفرنجي ، ولا مراء في أن الأساليب الأوروبية في هذا المجال أرقى وأصح من الأساليب القديمة ، ولكنها مع الأسف قد استتبعت محاكاة الإفرنج في تعاطي المشروبات الروحية ، وهذه لآفة جاءتنا من أوروبا ، وبدأ دخولها مصر على أيدي الأغنياء والسراة والمتعلمين ، ثم سرت إلي الطبقات الجاهلة ، فعم منها الفساد ، وصارت من شر الآفات التي ابتلي بها المجتمع المصري وكان منها بريئاً.

ومن مظاهر التطور الاجتماعي إقبال الناس على الرياضة والتنزه ، فقد أخذوا يرتادون المتنزهات والضواحي ، وخاصة بعد انتشار العربات التي سهلت المواصلات بين العاصمة وضواحيها ، فأخذ سيل المركبات لا ينقطع عصر كل يوم في طريق شبرا ، ثم في طريق الجزيرة والجيزة والأهرام ، وكان لإنشاء جسر ( كوبري ) قصر النيل فضل كبير في ميل الجماهير إلي التنزه ، لاجتلاء محاسن النيل وجسره البديع والتمتع برياض الجزيرة والجيزة ، وكانت ( شبرا ) هي متنزه سكان القاهرة من قبل ، ثم أخذ الناس يتحولون إلي كوبري قصر النيل وما يليه من القصور الفخمة والحدائق الغناء والطرق المعبدة ومناظر الطبيعة الرائعة.

وبدا على المجتمع الميل إلي المرح والحبور، ويرجع هذا الميل إلي الثراء والرفاهية ، ثم إلي انتشار التعليم ، ومن هنا ظهرت النهضة الغنائية في عصر إسماعيل ، وأزداد إقبال الناس على سماع الأغاني والموسيقى ، وارتقت اساليب الغناء ، وزادت مكانة المغنين في النفوس ونالوا من محبة الناس حظاً عظيماً ، وفي مقدمتهم عبده الحمولي ، وارتقى الذوق الموسيقي في المجتمع.
وأقبلت الطبقات الممتازة على حضور المسارح ومشاهدة الروايات التمثيلية ، ثم قلدتها الطبقات الأخرى ، وابتدع الخديوي إسماعيل سنة الرقص الأفرنجي ، فكان يقيم في سراي عابدين والجزيرة حفلات راقصة ( باللو ) بالغة منتهى الفخامة ، وكان يدعو إليها الكبراء وذوي المراكز الاجتماعية ، ورجال السلك السياسي وعقيلاتهم ، وكانت " الوقائع المصرية " تعنى باخبار هذه الحفلات وتصفها في مكان بارز من صحائفها.

وكان لحفلات الأفراح في ذلك العصر يهجة بالغة ، فقد كان السراة والأعيان يفتنون في تفخيمها وتعظيمها ، ويتنافسون في مظاهر البذخ والإسراف فيها ، وبلغت بعض هذه الأفراح من البهاء والروعة ما جعلها أحاديث الناس ، يتناقلونها جيلاً بعد جيل ، أما أفراح الخديوي إسماعيل ، فحدث عنها ولا حرج ، وخاصة الأفراح التي أقامها احتفالاً بزواج أنجاله الأمراء ، إذ عقد لولي عهده محمد توفيق باشا ( الخديوي ) على الأميرة أمينة هانم ( أم المحسنين ) كريمة إلهامي باشا ابن عباس الأول ، وللأمير حسين ( السلطان حسين ) على الأميرة عين الحياة بنت الأمير أحمد رفعت بن إبراهيم باشا ، والأمير حسن باشا على الأميرة خديجة هانم بنت الأمير محمد على الصغير بن محمد على باشا ، وكان الأحتفال بزواجهم أعظم أفراح هذا العصر ، ولا يزال الناس يذكرون فخامة هذه الأفراح ويسمونها ( أفراح الأنجال ).

وامتاز هذا العصر ببهجة الحفلات العلمية والمدرسية التي كانت تقام لمناسبة انتهاء الدراسة في المعاهد العالية ، الحربية والملكية ، والمدارس الثانوية والابتدائية ، فقد كان يحضرها الخديوي أحياناً ، ويشهدها كبار رجال الدولة ، وتوزع فيها الجوائز والمكافآت على أوائل الناجحين.

ولحفلات سباق الخيل في ذلك العصر مظاهر رائعة ، إذ كان يتسابق الجمهور إلي مشاهدتها في القاهرة ( بالعباسية ) أو في الإسكندرية وتعطى فيها الجوائز للخيول الفائزة ، فكان هواة الخيل يتنافسون في اقتناء الجياد الكريمة ، ويحضر الخديوي إسماعيل ، وكبار رجال الدولة هذه الحفلات ، وتنشر أنباؤها بعناية كبيرة في " الوقائع المصرية " ، واشتهر على باشا شريف بتنظيم هذه الحفلات والعناية بها وأحراز قصب السبق في اقتناء خيرالجياد.

واستمرت حفلات المولد والأعياد موضع إقبال الناس ورعاية الحكام ، وبقيت للموالد في القاهرة والأقاليم مكانتها التقليدية في النفوس.
                             عبد الرحمن العبد الرحمن الرافعي "عصر إسماعيل"
.طوال فترة حكمه كان إسماعيل يحاول موازنة أخطار متعددة لاستقلال مصر من الدولة العثمانية وأوربا. الموازنات فشلت في النهاية مع الأزمة الاقتصادية التي تسببت فيها سياسته المالية. مع آخر سنين حكمه برز لاعب آخر: حركة سياسية مصرية ناشئة تضم كبار ملاك وظباط في الجيش. حين أنشأ إسماعيل المجلس النيابي عام ١٨٦٦ كان أقرب إلى المسرحية. حين قيل للنواب أن مؤيدي الحكومة يجلسون في اليمين ومعارضيها في اليسار إنتقل كل النواب إلى اليمين قائلين "كلنا مؤيدون لحكومة أفندينا". هذه البداية غير المبشرة سرعان ما انقلبت إلى حركة سياسية نشطة. رغم ذلك من الملاحظ الغياب التام للأقباط عن هذه الحركة في عصر إسماعيل. البذور التي زرعها كيرلس الرابع لم تنضج بعد.
                                                                                                                                                   السياسة الخارجية
(1) الإمعان في استقلال مصر عن الدولة العثمانية؛ وحيازة ما يمكن، من حقوق وميزات، من الحكومة العثمانية، في السعي إلى الاستقلال التام.
(2) توسيع التعاون المصري ـ الأوروبي، في جميع المجالات؛ لنقل الحضارة الأوروبية إلى مصر.
ب. السياسة الداخلية: تنفيذ مشروع مصري، حضاري، في جميع الميادين؛ للارتقاء بمصر، ونقلها إلى مصاف الدول الأوروبية.
ج. اقتضت تلك السياسة أموالاً وافرة، اضطرت إسماعيل باشا إلى الاستدانة من المرابين وبيوت المال الأجنبية؛ إضافة إلى الاستعانة بالخبراء الأجانب، في جميع المجالات. وأسفر عن ذلك تفاقم النفوذ الأجنبي في مصر، وهو ما سينجم عنه خلع إسماعيل باشا عن العرش.

3. سياسة إسماعيل باشا حيال الدولة العثمانية
استهدف إسماعيل باشا، منذ بداية توليه الحكم، تحرير مصر من السيادة العثمانية، التي فرضتها معاهدة لندن، عام 1840؛ وفرمان عام 1841. وتدرَّج إلى هدفه كالآتي:
أ. بادر، فور توليه الحكم إلى تَوَدُّد السلطان العثماني، عبدالعزيز. وزار الآستانة. ودعا سلطانها لزيارة مصر؛ فاستجاب دعوته، في أبريل 1863؛ واستُقبل بحفاوة عظيمة.

ب. سارع إسماعيل باشا إلى تغيير نظام توارث الحكم، والذي فرضه فرمان 1841، والقاضي بأن يؤول العرش إلى أكبر أبناء الأسْرة العلوية سناً، وليس إلى أكبر أبناء الوالي. وقد نجح في ذلك، من خلال إغداقه على السلطات العثمانية، وقبوله شرط زيادة الجزية السنوية من 400 ألف جنيه عثماني إلى 750 ألفاً. وقد صدر فرمان عثماني، في 27 مايو 1866، يأمر بالآتي:
(1) انتقال حكم مصر (وتوابعها) إلى أكبر أبناء الوالي.
(2) إمكان زيادة الجيش إلى 30 ألفاً (وكان الجيش يزيد على ذلك).
(3) حق مصر في سك النقود.
ج. استمر إسماعيل باشا في إغداق الأموال على السلطات العثمانية، حتى حظي بفرمان 8 يونيه 1867، الذي يخلع على والي مصر لقب: خديوي (وهو لقب قريب من الملوك والسلاطين). كما أقر الفرمان باستقلال الحكومة المصرية في إدارة البلاد، وحقها في عقد المعاهدات الخاصة.
د. دعا الخديوي إسماعيل، عام 1869، ملوك أوروبا وأمراءها للاحتفال بافتتاح قناة السويس؛ ما أثار حفيظة السلطان العثماني، الذي عدّ توجيه الخديوي للدعوات استخفافاً بالولاء للسلطنة. وسرعان ما أصدر فرماناًً، في 29 نوفمبر 1869، يقيد فيه حرية مصر في الاستدانة الأجنبية.
وقد جهد الخديوي في تودُّد الباب العالي، قبل أن يصدر فرمان 10 سبتمبر 1872، الذي يؤكد الامتيازات المصرية السابقة، بما فيها حق الاستدانة.

هـ. لم يكتف الخديوي إسماعيل بذلك، بل زار الآستانة، حاملاً معه كميات من الأموال، لإغداقها على الباب العالي؛ فأصدر له فرمان 8 يونيه 1873، الذي يشمل امتيازات الفرمانات السابقة، إلى جانب ميزات جديدة؛

وتتلخص في الآتي:
(1) عرش مصر، يرثه أكبر أبناء الخديوي.
(2) أملاك الخديوي وملحقاتها، تشمل السودان، مع ما أُلحق بها من قائمقاميتَي مصوع وسواكن وملحقاتهما.
(3) سن الحكومة المصرية القوانين والأنظمة الداخلية، على اختلاف أنواعها.
(4) عقد الاتفاقيات الجمركية، والمعاهدات التجارية.
(5) حق الاقتراض من الخارج، من غير استئذان الحكومة العثمانية.
(6) زيادة عديد الجيش ما شاء الخديوي الزيادة.
(7) حق بناء السفن الحربية، عدا المدرعات، التي يجب استئذان الباب العالي، قبل إنشائها.
و. قلّما وثقت الدولة العثمانية بحكم الخديوي إسماعيل وطالما أساء هو الظن بها. ومصداق ذلك انضمام السلطان العثماني إلى الدول الأوروبية، في قرار خلع والي مصر عن عرشها، عام 1879؛ وتولية ابنه، الخديوي توفيق.
4. سياسة الخديوي إسماعيل تجاه الدول الأوروبية
حسِب الخديوي إسماعيل، أن ثقته وحدها بالدول الأوروبية، هي كافية لبناء مصر الحديثة. ولم يدرك أن لتلك الدول مصالحها في مصر، ومطامعها بالإمكانيات المصرية، وخاصة قناة السويس، التي نشط الاستعماري الأوروبي للسيطرة عليها. والفارق كبيراً بين محمد علي باشا والخديوي إسماعيل؛ فالجد كان يقتبس من الحضارة الأوروبية وسائل النهضة والتقدم، ويستعين بخبرة العلماء الأوروبيين على تنفيذ مشروعاته.

والحفيد فتح الباب على مصراعيه للاستدانة، والتدخل الأوروبي، والهجرات المتسعة، التي تستهدف الكسب والثراء؛ وكل ذلك، مهد لإطاحته. وقد تباينت علاقات الخديوي إسماعيل بكلّ من فرنسا وبريطانيا، اللتَين كانتا تتنافسان في النفوذ والسلطة في مصر.

أ. العلاقات بفرنسا
كان الخديوي إسماعيل متأثراً بالحضارة الفرنسية، بل كانت صلته وثيقة بنابوليون الثالث، إمبراطور فرنسا. وآية ذلك التكريم، الذي لقيته أوجيني الإمبراطورة الفرنسية، في افتتاح قناة السويس. زِد على ذلك أن معظم القروض، كانت فرنسية؛ وكادت الاستعانة تقتصر على الخبراء الفرنسيين. إلا أن هذه الصلات، تأثرت بسقوط الإمبراطور الفرنسي، في أعقاب انتصار الألمان على فرنسا، في الحرب السبعينية (عام 1870 – 1871). وأخذ النفوذ البريطاني يحل محل الفرنسي.

ب. العلاقات ببريطانيا
سخّرت بريطانيا هزيمة فرنسا في الحرب السبعينية، واضمحلال تأثيرها، لتنفيذ المآرب الإنجليزية الاستعمارية في مصر. وهي ما برحت، منذ افتتاح قناة السويس، تخطط لتثبيت نفوذها في تلك البلاد، تمهيداً لاحتلالها. ولم تغفل عن السودان.
وانتهزت بريطانيا ارتباك مصر المالي، فاشترت، عام 1875، الأسهم المصرية في قناة السويس. وأوحت إلى الخديوي، عام 1877، أن يُعَيِّن غردون باشا حكمداراً عاماً للسودان؛ وهي أول مرة، يسند فيها هذا المنصب الرفيع إلى أجنبي. ونشطت في عقد العديد من الاتفاقيات مع مصر، ودفع الشركات الإنجليزية إلى العمل في تلك البلاد. ولكي يستكمل البريطانيون إخضاع مصر، فقد سعوا إلى دعم مطالبة دائنيها بحقوقهم، وإنشاء صندوق الدين، الذي سيطر على الاقتصاد المصري.
                                                                                                                                                                                                                                 ديون مصر في عهد الخديوي إسماعيل هي الديون التي استدانها الخديوي إسماعيل خلال فترة حكمه رأيت مما تقدم أن الفائدة الاسمية للقروض كانت تتراوح بين 6 و 7%، ولكن فائدتها الحقيقية تصل إلي 12 و18 و26 و27%، وكان الخديوي كلما أعوزه المال يستدين بفوائد باهظة جالبة للخراب، وزادت هذه الفوائد الربوية في أواخر سنة 1875 وأوائل سنة 1876، لاضطرار الحكومة إلي أداء أقساط الديون المتراكمة وفوائدها، فكانت تتحايل للحصول علي المال بأية وسيلة، ومنها الاستدانة بواسطة السندات على الخزانة بفوائد فاحشة، بالغة ما بلغت، فكانت سائرة في سبيل الخراب لا محالة.

ولم تكن قيمة القروض تصل كاملة إلي الخزانة، بل كان أصحاب البيوت المالية والمرابين يخصمون منها مبالغ طائلة لحساب المصاريف والسمسرة والفوائد، وما إلي ذلك، ولم يكن إسماعيل يدقق أو يعارض في الحسابات التي يقدمها له الماليون والسماسرة. فالقرض المشئوم الذي عقد سنة 1873 بلغ مقداره الاسمي 32 مليون جنيه لم يدخل منه الخزانة سوى 20,700,000 جنيه، منها أحد عشر مليوناً من الجنيهات نقدناً والتسعة ملايين سندات. ولم يتسلم من القرض الذي عقده سنة 1870 سوى خمسة ملايين فقط، وكان اصله سبعة ملايين، وقس علي ذلك باقي القر
                                                                                                                                          ما الديون السائرة فلم يكن لها ضابط ولا حساب، وكانت تبلغ ثلاثة أمثال قيمتها الحقيقية وفي بعض الأحيان أربعة أمثالها. وقد أحصى بعض الماليين مقدار ما تسلمه الخديوي من القروض فبلغ 54 مليوناً من الجنيهات تقريباً في حين أن قيمتها الرسمية 96 مليوناً.
وقال جابرييل شارم Gabriel Charmes أحد كتاب فرنسا السياسيين ومن محرري جريدة (الديبا) وقد عاصر إسماعيل ودرس حالة مصر في عهده: "إن إسماعيل باشا قد اقترض في الثمانية عشر عاماً التي تولى الحكم فيها نحو ثلاثة مليارات من الفرنكات (120 مليون جنيه تقريباً)، ولكن الواقع أن نصف هذا المبلغ على الأقل بقي في يد الماليين وأصحاب البنوك والمضاربين من مختلف الأجناس ممن كانوا يحيطون به على الدوام" وهذا هو الخراب بعينه.
                                                                                                                                            سنة 1864
قرض سنة 1864 بقيمة 5,704,200 جنيه إنجليزي، كان على البلاد من الدين العام عند وفاة سعيد باشا نحو إحدى عشر مليون جنيه، وهو في الواقع مبلغ جسيم إذا قورن بميزانية مصر في تلك الفترة. وقد ندد إسماعيل حينما تبوأ عرش مصر بإسراف سلفه سعيد، واعتزم أن يسير طبقاً لقواعد الاقتصاد والتدبير، ونوه بذلك في خطبة ألقاها بحضور وكلاء الدول، وأوضح فيها برنامجه الذي اعتزم اتباعه في الحكم، فهي بمثابة (خطبة العرش) تفيض بالآمال الكبار والأماني الحسان. قال فيها : " أن أساس الإدارة هو النظام والاقتصاد في المالية، وسأبذل كل جهدي في اتباع قواعد النظام والاقتصاد، وقد عزمت أن أرتب لنفسي مخصصات محدودة، لا أتجاوزها أبداً، وسأعمل على إبطال السخرة التي اعتمدت عليها الحكومة في أعمالها، وآمل أن تؤدى حرية التجارة إلي نشر الرفاهية والرخاء بين جميع طبقات الشعب، وسأعنى كل العناية بتوطيد دعائم العدالة ". تلك عهود الخديوي في خطبة العرش وأولها اتباع النظام والاقتصاد.

ولكن لم تكد تمضى عدة أشهر على هذه الدعوة حتى أخذ ينقضها، ففتح باب القروض متلاحقة بعضها إثر بعض، واتخذها عادة تكاد تكون سنوية.

ولم تكن حالة البلاد المالية مما يستدعى الاقتراض، لأن مصر تعد من أغنى بلاد العالم، وتستطيع إذا هي وجدت إدارة حكيمة أن تسلك سبيل التقدم والعمران دون أن تحتاج إلي القروض، وعلاوة على ذلك فأن ما نشئ عن الحرب الأمريكية الأهلية من ارتفاع أسعار القطن في أوائل حكم إسماعيل، قد جعل البلاد في حالة يسر ورخاء.

واشتملت ميزانية سنة 1864 على زيادة في الدخل على الخرج، فلم يكن ثمة حاجة إلي قرض جديد كما يقول مؤلف (تاريخ مصر المالي) الذي عاش في ذلك العصر وألف فيه كتابه القيم. ولكن إسماعيل أقترض أول قروضه سنة 1864، وتذرع لتسويغه بحاجة الحكومة إلي المال لمقاومة الطاعون البقرى الذي انتاب البلاد في ذلك العهد، ولسداد أقساط ديون سعيد باشا ويقول مؤلف (تاريخ مصر المالي) "ص18" إن مقاومة الطاعون البقري كانت حجة واهية، لأن الفلاحين والملاك هم الذين احتملوا وحدهم الخسائر الناشئة عن هذا الطاعون، ولم يرد بميزانية سنة 1864 مما أنفقته الحكومة في هذا الصدد سوى 125,000 جنيه، ولذلك أبدى دهشته من أن الحكومة تلجأ إلي الاقتراض على ما في ميزانية سنة 1864 من زيادة الدخل على الخرج. وقال أن السبب الحقيقي لقرض سنة 1864 أن إسماعيل لم يحقق وعود الاقتصاد التي قطعها على نفسه، بل سار سيرة بذخ وهوى وإسراف، واستكثر من شراء الأطيان والأملاك لنفسه والإنفاق عليها ن فهذه الأسباب هي التي جعلته يعقد القرض الأول، وما كان سداد ديون سعيد ولا الإنفاق على مقاومة الطاعون البقرى، إلا ذريعة شكلية لذر الرماد في العيون. هذا ما يقولة مؤلف تاريخ مصر المالي، وهو كاتب مشهود له بتحري الحقائق والاعتدال في الرأي، وليس في كلامه مبالغة، لأن المعروف عن إسماعيل باشا أنه كان بطبعه ميالاً إلي الاستكثار من المال والعقار، وظهرت علية هذه الميول منذ ولايته الحكم، فقد كان نظار أملاكه ومفتشوها يفتنون في حمل الفلاحين على بيع أطيانهم أو التنازل عنها للخديوي، حتى صار مالكاً لخمس القطر المصري.
كتبت مدام (اولمب إدواز) في كتابها عن مصر تقول عن الخديوي إسماعيل : إنه لم يكن يهتم إلا بجمع الملايين، وكان يقتنى الأطيان في كل ناحية قدر ما يستطاع ن ويلجا إلي السخرة لزرعها واستصلاحها، ويعقد القرض تلو القرض لآجال طويلة، تاركاً لمن يخلفه في الحكم أن يسدد ديونه، حتى كأنه يقصد أن يعقد مهمة الحكم لمن يأتي من بعده. كتب هذا الكلام في ديسمبر سنة 1864، ولم يكن مضى عامان على اعتلاء إسماعيل العرش، فهذا الوصف يعطيك صورة عن ميوله الأولى، فهو قد بدأ يستدين في الوقت الذي لم تكن البلاد في حاجة ما إلي الاستدانة، واستدان ليقتنى الأطيان والعقار.
استدان القرض الأول في 24 سبتمبر سنة 1864 من بيت فرولينج وجوشن Fruhling and Goschen الإنجليزي، وقيمته 5.704.200 جنيه إنجليزي بفائدة 7% لمدة 15 سنة وبلغت الفائدة الحقيقية مع الاستهلاك 12%، وهي كما ترى فائدة فاحشة، ولذلك لقي القرض إقبالاً عظيماً من المكتتبين في سنداته، وقد رهنت ضرائب الأطيان بمديريات الدقهلية والشرقية والبحيرة لسداد أقساطه. 
                                                                                                                                           رض سنة 1865
قرض سنة 1865 بقيمة 3,387,300 جنيه إنجليزي.

لم ينفق إسماعيل شيئا يذكر من قرض سنة 1864 على مرافق البلاد العامة، بل أنفق معظمه على توسيع دائرة أطيانه وأملاكه, واشترى في ذلك الحين "قصر إميرجان" على ضفاف البوسفور، ليتخذه مقر له عندما ينزل الآستانة، ولم يكن لولاة مصر قصور خاصة لهذه المدينة ينزلون بها من قبل, ولكن إسماعيل رأى من استكمال مظاهر البذخ أن يكون له قصر فخم لكن بهاء ورواء عن قصور السلاطين, ابتاع ذلك القصر وأنفق المبالغ الطائلة في توسيعه وزخرفته. وفي ذلك العهد بدأ ينشئ القصور الفخمة في مصر، فشرع في أقامه سراي الجيزة المشهورة، وكان التصميم على أن تكون داراً أنيقة، ثم اتسعت فصارت قصراً فخماً، وتعددت المباني حولها، ومدت الطرق الجميلة بين الجيزة والجزيرة، وأنفقت الأموال جزافاً في سبيل إنشائها. فهذه النفقات الباهظة جعلت إسماعيل يفكر في قرض آخر، ولن تمضى ثمانية أشهر على القرض الأول. وليس من ضير أن يبتنى ولي الأمر ما شاء من القصور والساريات، ولكن إذا كانت مالية البلاد لا تسمح بنفقات تلك المباني، ولا سبيل إلى أقامتها إلا من القروض، فلا تسوغ الاستدانة لهذا الغرض، لأنه لا يجوز أن تقترض حكومة رشيدة قرضاً ما لأنفاق قيمته على مثل هذه الكماليات.

وقد جد سبب آخر دعا إسماعيل إلي عقد القرض الثاني، وهو الأزمة المالية التي أعقبت هبوط أسعار القطن، ذلك أن انتهاء الحرب الأمريكية الأهلية في أوائل سنة 1865 فتح الأسواق أمام القطن الأمريكي، فتراجعت أسعار القطن المصري إلى مستواها القديم، وقد حل الضيق بالأهالي من الفلاحين والملاك، لأنهم اعتادوا أثناء ارتفاع أسعار القطن أن ينفقوا عن سعة ويستدينوا المال بفوائد فاحشه من المرابين، علي أمل سداده من ثمن القطن في الموسم المقبل (كما حدث سنة 1919, والتاريخ يعيد نفسه), فلما هبطت أسعار القطن وقعوا في أزمة شديدة غرفت بأزمة سنة 1865, ولم يدروا كيف يوفون ديونهم, فاعتزم إسماعيل أن تتدخل الحكومة في هذه الأزمة، فحصرت ديون الأهليين وسددتها عنهم للدائنين والمرابين، علي أن ترجع بها علي المدينين مقسطة علي سبع سنوات بفائدة 7% وخصص لهذه العملية 1,400,000 جنيه. والفكرة في ذاتها فكرة حكيمة تدل علي عطف إسماعيل علي الشعب، ولكن اقترانها باستدانة قرض جديد من الخارج يفقدها بهائها، ولاشك في أن إسماعيل لو أتبع التدبير والاقتصاد، لما كانت الحكومة في حاجه إلى هذا القرض الجديد، ولا الذي سبقه، فضلاً عن الديون السايرة التي لم يكن يعرف مقدارها، وهي الديون التي كان الخديوي يقترضها بسندات على الخزانة كما سيجيء بيانه.

اقترض إسماعيل قرض سنة 1865 من بنك الأنجلو، وقدره 3.387.300 جنيه، ولم يقبض منه سوي 3.000.000 جنيه ورهن في مقابله 365.000 فدان من أملاكه ويسمى هذا الدين (الدائرة السنية الأولي)


                                                                                                                                                     رض سنة 1866
قرض سنة 1866 بقيمة 3,000,000 جنيه إنجليزي هو القرض الذي استدانه إسماعيل من بنك أوبنهايم في 5 يناير سنة 1866 ، وقدره 3.000.000 جنيه ، ورهن في مقابله إيرادات السكك الحديدية. وقد جرت المفاوضات بشأن هذا القرض أثناء مفاوضات القرض السابق، وهذا من أغرب ما سمع في معرض التبذير وقصر النظر، وكان قرض أوبنهايم هو الأسبق ، لكن المفاوضات بشأنه طالت ، فلم يطق إسماعيل صبراً ، واستدان من بنك الأنجلو القرض السابق ، ثم تمت المفاوضات الخاصة بقرض أوبنهايم ، فأتم صفقته أيضا.

واستدان إسماعيل في تلك السنة أيضا دينين آخرين من الديون السائرة ، ولم يكن في حاجه إلى هذه القروض ، ولكنه أنفقها علي بناء قصوره ، دفع منها ثمن أملاك الأميرين. مصطفي فاضل ومحمد عبد الحليم ، فقد كان ميالاً إلى الاستكثار من الأملاك بكل الوسائل كما أسلفنا ، وامتدت اطماعة إلي تجريد الأميرين المذكورين من أملاكهما بالقطر المصري ، وكان يحقد عليهما لمنافستهما إياه علي العرش ، وأشتد عداؤه لهما لمقاومتهما إياه في تغيير نظام التوارث، وقد أسلفنا أن إسماعيل حصل علي فرمان مايو سنة 1866 الذي جعل وراثة العرش في بكر أبنائه.

ومن قرض سنة 1866 والديون السائرة أدي الرشوة التي بذلها للسلطان ولحكام الآستانة للحصول علي هذا الفرمان ،وقد بلغت هذه الرشوة ثلاثة ملايين جنيه تقريباً، ودفع ثمن أملاك الأميرين مصطفي فاضل ومحمد عبد الحليم، فاشترى أملاك الأمير مصطفي فاضل في نوفمبر سنة 1866 بثمن بلغ 2,080,000 جنيه ، مقسطاً على خمس عشرة سنة وبلغت السمسرة في هذه الصفقة 80 ألف جنيه. واشترى أملاك الأمير محمد عبد الحليم بثمن مقداره 1.200.000 جنيه تسلم منه البائع 300.000 جنيه سندات على الدائرة السنية بضمان الحكومة، وتعهد بأداء القرض الذي استدانه الأمير من قبل.

فترى مما تقدم أن هذه القروض ضاعت فيما لا ينفع البلاد ، لأن تغيير نظام توارث العرش مسألة شخصية لإسماعيل ، وكذلك شراء أملاك أخيه وأبن عمه ، فكأن إسماعيل اقترض هذه الديون لكي تتسع أملاكه ، تحقيقاً لأطماع شخصية ، وإرضاء لحزازات عائلية لا شأن للبلاد فيها.
                                                                                                                             رض سنة 1867
قرض سنة 1867 بقيمة 2,800,000 جنيه إنجليزي. اقترض إسماعيل سنة 1867 قرضاً جديداً قيمته 2,800,000 جنيه ، ولم يعرف سبب ظاهر لهذا القرض ، واختلفت الآراء في تعليله ، ولكن التعليل الصحيح أن الخديوي علاوة علي القروض السابقة لا يفتأ يستدين ديوناً سائرة من المرابين الأجانب المقيمين في مصر ، ولم يكن لهذه الديون حساب ظاهر ولا حد معلوم ، وكل ما عرف عنها أنها كانت ذات فوائد فاحشة جداً ، وكان العمل في ذلك الحين قائماً علي قدم وساق لتجديد حديقة الأزبكية ، وبناء دار التمثيل، ومضمار لسباق الخيل ، وبناء قصور عابدين والقبة والزعفران والجيزة والقصر العالي وسراي مصطفي باشا برمل الإسكندرية، فكل هذه المباني كان ينفق عليها من الديون ثابتة كانت أو سائرة ، لأن ميزانية الحكومة ما كانت تسمح بإقامتها.

وقد بلغت الديون السائرة إلي ذلك الحين نحو عشرة ملايين جنيه ، وهو مبلغ باهظ يثقل كاهل الخزانة ، وفوائده تبتلع جزءاً كبيراً من الإيراد ، فتذرع الخديوي إلي عقد قرض سنة 1867 برغبته في سداد فوائد هذه الديون التي لا يعرف لها أول ولا آخر ، وفي تحويل الديون السائرة جميعاً إلي دين ثابت، علي أن الديون وفوائدها بقيت كما كانت ، فلا سددت فوائدها ، ولا تم تحويلها.                                       

ج. مسارعة الخديوي إسماعيل إلى شراء موافقات السلطان العثماني بالأموال؛ ما أرهق مصر بإنفاق، لا لزوم له.
د. اهتمام الخديوي إسماعيل بالجيش، لم يدفعه إلى إلغاء ميزات الأتراك والشراكسة، على حساب المصريين.
    


                                                                                                                                       روض سنة 1868
قروض سنة 1868 بقيمة 11,890,000 جنيه إنجليزي.
اشترك الخديوي في المعرض العام الذي أقيم في باريس سنة 1876 وظهر فيه بمظهر فخم يأخذ بالألباب، فأنفق في هذا السبيل وفي رحلته بباريس ملايين الجنيهات، وغرضه من هذا الإسراف هو الظهور بمظهر العظمة واجتذاب ثقة البيوت المالية الأجنبية لتقرضه من جديد، وضاع من قبل جانب من هذه الملايين في الرشا والهدايا التي بذلها في الآستانة ليحصل علي لقب (خديوي)، وقد نال الفرمان الذي منحه هذا اللقب في 8 يونيه سنة 1867. فلهذه الأسباب خلت الخزانة الحكومية من المال، ولجأ الخديوي إلي الآستانة من جديد. واقترض فعلاً سنة 1868 قرضاً جديداً قدره 11.890.000 جنيه من بنك أوبنهايم. وحقيقة هذا القرض، أي صافي ما دخل خزانة الحكومة 7,195,384 جنيه، أي أن سعر القرض 61%، فحلت بالخزانة خسارة فادحه من شروط هذا القرض، وخصص لسداد أقساطه السنوية إيراد الجمارك وعوائد الكباري وإيراد الملح ومصايد الأسماك، وقدر دخل هذه الموارد بمليون جنيه في السنة، وكان من شروط هذا القرض أن يكف الخديوي عن الاستدانة مدة خمس سنوات. أنفق إسماعيل نحو مليونين من هذا القرض في الآستانة علي حفلات والولائم، ورشا للسلطان ولرجال الما بين. وأنفق جزءاً منه في إتمام بناء قصوره في عابدين والقبة والعباسية والجيزة وسراي مصطفى باشا بالإسكندرية وتأسيسها بفاخر الأثاث والرياش، ومن هذا القرض أيضا أنفق النفقات الباهظة علي حفلات افتتاح قناة السويس سنة 1869، وقد بلغت مليوناً ونصف مليون جنيه تقريباً.

فانظر كيف أن نفقات تلك الحفلات كانت من القرض، فكان الخديوي في هذا الموقف شبيهاً ببعض الذوات والأعيان في الاستدانة للإنفاق علي إقامة الحفلات والولائم، والظهور بمظهر الفخفخة والبذخ، أمام قوم ليس في قلوبهم ذرة من الإخلاص لمضيفهم، فإن ضيوف القناة ومعظمهم من ذوي الرءوس المتوجة، وأصحاب النفوذ والسلطان المالي والسياسي في أوروبا هم الذين استعبدوا مصر بعد تلك الحفلات، وهم الذين ضربوا عليها الوصاية المالية الشديدة الوطأة. أحدثت نفقات حفلات القناة فراغاً كبيراً في الخزانة، وبدأت مظاهر الضيق والارتباك تبدو على وزارة المالية، لقرب المواعيد المضروبة لأداء أقساط الديون، ولم يكن في خزائنها ما يفي بذلك، فاضطر الخديوي تفريجاً للضائقة، وكتماناً لأسرارها، أن يستدين من أحد معارفه 300,000 جنيه، وقبلت وزارة المالية أن تخصم البنوك سنداتها بفائدة 14% لمدة ثلاث أشهر، وبديهي أن قبول هذه الشروط القاسية دليل علي ما وصلت إلية الحالة من الضيق والإعسار. وكان الدين السائر يزداد يوماً بعد يوم، بسبب حاجة الحكومة إلي المال، حتى بلغ 12 مليوناً في أواخر عام 1869، أي بعد انتهاء حفلات القناة، وهو مبلغ فادح تنوء به ميزانية البلاد. فتأمل فيما جرت حفلات القناة علي البلاد من فادح الأضرار، ومع أن الخديوي كان قد وعد أن ينفق علي هذه الحفلات من ماله الخاص، إكباراً لشأنها، فإن البلاد وحدها هي التي احتملت نفقاتها. قال مؤلف(تاريخ مصر المالي) في كتابه ص 95 : "إن بهر هذه الحفلات قد أنسى الناس إلي وقت ما أخطار الحالة المالية، ولكن لم تكد تنطفئ شعلة الحماسة التي أثارتها، حتى بدأ الناس يشعرون بأن هذه الأخطار آخذة في ازدياد، وأن هذه الحفلات ذاتها لم تكن إلا سلسلة متصلة الحلقات من أعمال جنونية لا فائدة منها، فإن البلاد لم تنل أي فائدة مقابل النفقات الفادحة التي بذلت فيها". أما الخديوي فأنه لم يفطن إلي الأخطار التي استهدفت لها البلاد، ومن المؤلم أن حفلات القناة قد زادته غروراً وإمعاناً في عدم التبصر، فاستمر ينحدر في طريق الإسراف والاستدانة.
                                                                                                                                          قروض التحايل
لم تكد تنتهي حفلات القناة حتى أخذ معين المال ينضب في الخزانة ، وكان إسماعيل مقيداً بما أشترطه في قرضه السابق ، وهو عدم الاقتراض لمدة خمس سنوات ، فضلاً عن أنه خرج من حفلات القناة وقد ألقي في روع ضيوفه الأوربيين أن خزائن مصر تفيض بالمال ، وفي الواقع أن مظاهر هذه الحفلات وما أنفق عليها من الملايين ، لا تدع مجالاً للشك في ذلك فلم يجد من الائق ولا من السائغ أن يمد يده إلي البيوت المالية ويطلب قرضاً جديداً. ولكنه كان في حاجة إلي المال ، فابتكر له وزيره المفتش طريقة خطرة اتبعها في صيف سنة 1869، وهي أنه باع التجار الإفرنج مقادير كبيرة من بذر القطن، تربو على خمسمائة ألف أردب، قبض ثمنها نقداً، ووعد بتسليمها بعد خمسة أشهر، أي بعد جني محصول القطن الجديد. ولما انقضى الميعاد اتضح أن الحكومة باعت ما لديها من محصول القطن مرة ثانية وقبضت ثمنه ، وقد سويت هذه الفضيحة بأن طلبت الحكومة من التجار أن يبيعوها بسعر 78 قرشاً ما اشتروه منها بسعر 71 ، واتفقوا علي أن تدفع لهم القيمة إفادات مالية تسري عليها فوائد 12% سنوياً، أي أن ربحهم بلغ 18% سنوياً. وتكررت هذه العملية غير مرة في سنوات عدة، فقد تبين للجنة التحقيق الأوربية سنة 1878 أن الحكومة كانت تبيع للتجار الأجانب غلالاً ليست في حوزتها ولا ينتظر أن تحوزها ، وتتسلم الثمن فوراً ، فإذا جاء موعد تسليم الغلال اشترتها من ذات التاجر الذي باعته إياها ودفعت ثمنها أوراقاً وسندات على الخزانة ، مع فوائد لا تقل عن 18% أو 20%. ولا تحتسب الفوائد علي المبلغ الأصلي الذي أخذته من التاجر ، بل علي المبلغ التالي المقدر ثمناً لغلاله، وناهيك بما يصيب الحكومة من جراء هذه العمليات من الخسائر الفادحة.
                                                                                                                                                     ين الدائرة السنية
قرض سنة 1870 (دين الدائرة السنية) بقيمة 7,142,860 جنيه إنجليزي.

كان إسماعيل مقيداً بعدم الاقتراض طبقاً لشروط سلفة سنة 1868 ، ومن جهة أخرى فقد لفتت القروض وضخامتها أنظار الباب العالي ، فحاول وضع حد لها، فحظر علي الخديوي بمقتضى فرمان سنة 1869 أن يقترض إلا بإذنه ، ولكن إسماعيل كان يريد الاقتراض بأية وسيلة ، فلم ير بداً من أن يعقد قرضاً لحسابه الخاص. فاستدان في أبريل سنة 1870 من البنك الفرنساوي المصري 7.142.860 جنيه بفائدة 7% بضمان أطيانه الخاصة، عدا الأطيان التي رهنها سابقاً، ولذلك سمى هذا قرض الدائرة السنية الثاني، وصدر بواقع 6,7% ، بعد استبعاد السمسرة والعمولة والمتعة ، فكانت النتيجة أنه لم يدخل منه خزائن الخديوي سوى 5,000,000 جنيه ، ولكنه يسدد على القيمة الاسمية وهي 7,142,860 جنيه في عشرين سنة ، وبلغ العبء الذي احتملته الدائرة السنية سنوياً لأداء هذا الدين 668,960 جنيه أي 13% تقريباً من رأس المال المدفوع. وكانت حجة إسماعيل التي تذرع بها لعقد هذا القرض أنه احتاج إليه لإنشاء مصانع السكر ، ومد سكك الحديد الزراعية لأطيانه التي خصصها لزراعة القصب ، وقد أنشئت المصانع فعلاً ، ولكنها استلزمت من النفقات أضعاف ما تستحقه، فضلاً عن أن أرباحها تقل عن فوائد الدين، ومن جهة أخرى فليس من الحكمة اقتراض دين جسيم بهذا المقدار لإنشاء مصانع في الوقت الذي تنوء فيه الخزانة بالقروض السابقة.
                                                                                                                                            قرض أوبنهايم
انتظر إسماعيل بفارغ الصبر السنوات الخمس التي حظر فيها علي نفسه عقد قروض جديدة تنفيذاً لشروط سلفة سنة 1868، وسعى جهده في الآستانة وبذل فيها الأموال الطائله من الرشا والهدايا ليلغي فرمان سنة 1869 ويحصل على الفرمان الذي يبيح له الاقتراض من غير حاجة إلي أذن الحكومة التركية ، فناله في سنة 1872.
فلم تكد تنتهي هذه المدة ويشعر إسماعيل بفك اعتقاله من هذا القيد ، حتى عقد قرضاً جديداً من بيت أوبنهايم المالي قدره 32,000,000 جنيه ، وهو أكبر القروض من جهة القيمة وأسوؤها من جهة الشروط ، وقد دعاه الماليون" القرض الكبير" وهو حقيق بأن يسمى " القرض المشئوم". وكانت حجته في هذا القرض أنه اعتزم سداد الديون السائرة، ولكنه في الواقع لم يخصص شيئاً منه لهذه الغاية، وبقيت الديون السائرة كما كانت.

عقد هذا القرض بفائدة 7% وقيمة سنداته 84.5 % ، وبلغ ما دخل الخزانة منه بعد استبعاد النفقات والخصم والسمسرة 20,740,077 جنيه، أي بنقض 37% من قيمة الدين الاسمية، فخسرت الحكومة من اصل القرض نيفا وأحد عشر مليون جنية، في حين التزمت بقسط سنوي لسداده يبلغ 2و265,671 جنيه، ثم إنها لم تقبض المبلغ نقدا، بل تسلمت منه فقط أحد عشر مليون جنية، والباقي وقدره تسعة ملاين جعلت سندات للخزانة المصرية.

ومن هذا يتبين أن قرضا القي علي عاتق البلاد عبئا جسيما مقداره عشر مليون جنية فقط, وليس في تاريخ القروض، في العلم قاطبة، يعقد بمثل هذه الشوط الجائزة، بل هذه السرقة العلنية، كما أنه لا يمكن أن توجد حكومة عندها قليل من الشعور بالمسؤولية تقبل التعاقد على مثل هذه الشروط.

وقد رهن إسماعيل لسداد هذا الدين ما بقي من موارد الإيراد التي لم تخصص كلها أو بعضها للقروض السابقة وهي:
أولا : إيرادات السكك الحديدية وقد قدرت بـ 750 ألف جنية في السنة
ثانيا : الضرائب الشخصية والضرائب غير المقررة وقدرها مليون جنية
ثالثا : عوايد الملح وقدرها 200.00جنية
رابعا : مليون جنية من ضريبة المقابلة
خامسا: كل الموارد التي خصصت للقروض السابقة متي أصبحت حرة.
ومن المفارقات المثيرة للعجب أن السنة التي عقد فيها إسماعيل هذا القرض المنحوس هي ذات السنة التي نال فيها فرمان سنة 1873 الجامع الذي خوله أقصى ما حصل عليه من المزايا, أو بعبارة أخرى إن إسماعيل قد بلغ اوجه نفوذه الرسمي في علاقته مع تركيا في الوقت الذي أشرفت فيه البلاد علي حاله من الإفلاس أفقدتها استقلالها المالي ثم السياسي .
                                                                                                                                                    ين الرزنامة
احتاج إسماعيل إلي قرض آخر سنة 1874 ، فأبتدع له المفتش وسيله جديدة يقترضها من الأهالي ديناً سمي (دين الرزنامة ). كانت "مصلحة الرزنامة" نموذج مبكر لهيئة معاشات، حيث تودع فيها رءوس أموال للمستحقين مقابل دفع معاشات لهم ، فابتكر إسماعيل باشا المفتش فكرة جديدة، وهي أن يستثمر الأهالي أموالهم في مصلحة الرزنامة ، بأن يودعوا فيها المدخر من هذه الأموال على أن تستثمرها المصلحة في مشروعات صناعية وتجارية، وتصدر الرزنامة سندات إيراد دائم بما لا يزيد عن خمسة ملايين من الجنيهات ، على أن تكون المائة فيها مائه ويكون ثمن هذه السندات متراوحاً بين جنيهين ونصف وخمسة جنيهات ، وتدفع المصلحة فوائد عنها بحساب 9%.

وقد أوجس الأهلين شراً من هذه الطريقة في ابتزاز أموالهم ، لأنهم عالمون بمصيرها ، ولكن الحكومة لجأت إلي الطريقة التي اتبعتها في تحصيل المقابلة ، فبلغ ما ساهم فيه الأهالي من سندات هذا القرض الإجباري 3,337,000 جنيه، لم يدخل الخزانة منها سوي 1.878.000 جنيه ، ولم تدفع من فوائدها سوى جزء من فوائد السنة الأولى
قانون المقابلة
قانون المقابلة (30 أغسطس 1871 ) وعن طريقه تمت جباية 13 مليون جنيه.

في سنة 1870 نشبت الحرب بين فرنسا وألمانيا، وهي الحرب المشهورة بالحرب السبعينية، فاضطربت الأسواق في أوروبا، وقبضت البيوت المالية يدها علي الإقراض، وكان الخديوي في حاجة إلي المال، فعمل وزير ماليته إلي زيادة الضرائب، ولكن هذا المعين لم يف بطلباته ، فأبتدع المفتش طريقة تعد بمنزلة قرض إجباري يجئ من الأهالي، أو ضريبة جديدة تفرض علي أطيانهم وصدر بها القانون المشهور بلائحة المقابلة في 30 أغسطس 1871.
يقضى هذا القانون بأنه إذا دفع ملاك الأطيان الضرائب المربوطة على أطيانهم لمدة ست سنوات مقدما تعفى الحكومة أطيانهم على الدوام من نصف المربوط عليها (مادة 3), ولكي يحصلوا على هذه الميزة يدفعون ضرائب السنوات الست دفعه واحدة أو على أقساط متتابعة لا تزيد مدتها عن ست سنوات, علاوة على الضريبة السنوية ،وتحسب لهم فوائد عما يدفعونه مقدما بواقع 8.5 % (المادة4).

وأساس هذا المشروع على حسبان إسماعيل صديق أن الدين العام يبلغ ضعف الضرائب العقارية عن ست سنوات, فإذا دفع الأهالي الضرائب مضاعفه على هذه السنوات الست, سدد الدين كله, وفي مقابل ذلك تعفيهم الحكومة إلى الأبد من نصف الضريبة المربوط على أطيانهم وتعهدت الحكومة في هذا القانون (المادة 3 والمادة 20) بان من يدفعون المقابلة لا يزاد سعر الضر يبه على أطيانهم في الاستقبال ،ولا يجوز مطالبتهم بسلفه ولو مؤقتة, وقضت المادة 29 بأنه لا يجوز لناظر المالية بعد الحصول على المبالغ المطلوبة إصدار سندات على الخزانة أو استدانت ديون جديده ،ولا تجوز المطالبة بسلف مؤقتة ولو تحت تأثير قوه قاهره كإشراق أو إغراق الأبعد التصديق على ذلك من مجلس النواب (مادة 38), وحتمت المادة 43 أن تخصص المبالغ المدفوعة من المقابلة لسداد ديون الحكومة. جعل هذا القانون دفع المقابلة اختياريا, ولكن الحكومة لجأت في تنفيذه إلى التوريط بالنسبة للباشوات وكبار الأعيان, وإلى الضغط والإكراه والضرب بالكرباج بالنسبة لسائر الأهليين, ولولا الإكراه لما ارتضى الناس المخاطرة بأموالهم, لأنهم يعلمون مبلغ عهود الحكومة, وخاصة في المسائل المالية ، فهم لم يدفعوا المقابلة إلا مكرهين, فكانت ضريبة جديده أو سلفة إجبارية زادتهم إرهاقا وضنكا.

وقد استطاعت الحكومة أن تجنى من هذه الضريبة خمسة ملاين من الجنيهات لغاية آخر سنة 1871, وبلغ مجموع ما جبته منها نيفا وثلاثة عشر مليون جنيه ونصفا لغاية سنة 1879 . وغنى عن البيان انه لم يدفع شيء من هذه الملاين في الدين العام, ثابتا كان أو سائرا ،بل ابتلعتها هوية الإسراف التي ابتلعت القروض الأخرى ، وعلاوة على ذلك فإن وزير المالية نقض عهده الذي أعلنه في الوقائع المصرية ووعد فيه بامتناع الحكومة عن إخراج بونات (سندات)علي الخزانة ،فانه رغم هذا العهد اصدر إفادات مالية استدان بها عدت ملاين أخرى بلغت اثني عشر مليون جنيه, كما يقدرها مؤلف (تاريخ مصر المالي ), ونقضت الحكومة عهدها أيضا فزادت الضرائب على ذات الأطيان التي دفعت المقابلة . وقد وقف العمل بقانون المقابلة مؤقتا بالمرسوم الصدر بتوحيد الديون (7 مايو 1876) ووعدت الحكومة برد المبالغ التي حصلت من أصحاب الأطيان أو تخفيض الضريبة عنه تخفيضا يناسب قيمة هذه المبالغ ،علي أن مرسوم 18 نوفمبر 1876 أعاد العمل بالمقابلة, واحتسبها ضمن إيرادات الحكومة ، وخصصها لاستهلاك الدين العام.

كانت " المقابلة" طريقة معوجة في الاستدانة ، لأنه معلوم أن معظم إيرادات الحكومة السنوية في بلاد زراعية كمصر تجني من الضرائب على الأطيان ، فإنقاص نصف المربوط من الضرائب إلي الأبد في مقابل سداد ضعف الضريبة مقدماً عن ست سنوات يؤدي إلي نضوب معين المال بعد انتهاء السنوات الست ، وهذا يوقع الحكومة في الضيق المالي الشديد ، وليس من القواعد الاقتصادية الصحيحة تقيد الحكومة بعدم زيادة سعر الضريبة ، لأن الضرائب تتبع الحالة المالية العامة، فتزيد وتنقص بحسب تطور الأحوال، هذا فضلاً عن أن الحكمة التي تذرعت بها الحكومة إلي وضع قانون المقابلة وهي وفاء الدين العام لم تتحقق البتة ولم يسدد شيء من هذا الدين ، بل زاد عما كان علية ، فكأن المقابلة كانت وسيلة لاقتناص الأموال من الأهليين وتبديدها.

وقد ألغيت هذه الضريبة بمقتضى المرسوم الذي أصدره الخديوي توفيق باشا في 6 يناير 1880 وقضى قانون التصفية الصادر في 17 يولية 1880 بأن ما دفع منها يخصم منه ما عساه يكون مطلوباً للحكومة من متأخرات الأموال أو الديون أو غيرها ، والباقي يرد إلي أصحابه مقسطاً على خمسين سنة، وخصص لهذه الأقساط كل سنة 150.000 جنيه

توقف مصر عن الدفع (أبريل سنة 1876 )
سارت الضائقة المالية في طريقها، وأعوز الخزانة المصرية المال اللازم لأداء أقساط الديون ، وأخيراً عجزت عن الوفاء، فأصدر الخديوي مرسوماً في 6 أبريل 1876 بتأجيل دفع السندات والأقساط المستحقة علي الحكومة في أبريل ومايو ثلاثة أشهر ولم يكن تحديد هذه الثلاثة أشهر إلا للمحافظة على الظواهر، وكان الغرض هو التأجيل إلي ما شاء الله.
وأعلن هذا المرسوم في بورصة الإسكندرية يوم 8 أبريل ، فكان هذا إيذاناً بالتوقف عن الدفع ،أو بعبارة أخرى بالإفلاس ، ولما ذاع هذا المرسوم سرى السخط والذعر في الأسواق المالية الأوروبية ، وصار إسماعيل هدفاً لطعون الماليين والمرابين الأجانب ، وانقلبوا يتهددون ويتوعدون، بعد أن كانوا حتى الأمس يداهنون ويتملقون، وأخذوا يتحدثون بوجوب خلع الخديوي.
الخلاصة
يتضح مما تقدم بيانه أن القروض شغلت معظم سني حكم إسماعيل، وأن الاقتراض كان له عادة سنوية لم يكن يقوى على التخلص منها، ويتبين أيضا انه يقترض المال بشرط خاسرة، وأن القروض التي عقدها لم تكن البلاد في حاجة إليها، ومعظمها كان الغرض منه سداد الديون السائرة، وهذه الديون لم تعرف لها حكمة، ولم ينفق منها على الضروري من مصالح البلاد سوى النزر اليسير، وأن ميزانية الحكومة لو حسن تدبيرها كانت تفي بنفقاتها المعتدلة، وتفي بأعمال العمران دون حاجة للاستدانة.
وفي ذلك يقول المستر (كيف) الذي عهد إليه إسماعيل فحص مالية مصر سنة 1875: "إن المبالغ الحاصلة من ميزانية مصر عن المدة الواقعة بين سنة [1864] وسنة 1875 بلغت 94,21,400 جنيه، خصص منها لحملة الأسهم نحو ستة ملايين من الجنيهات، أى أن مخصصات الديون ابتلعت معظم الميزانية، وظهر في ميزانية تلك السنة عجز مقداره 1,382,200 جنيه، نشأ عن فداحة مخصصات الديون.

<!من وجهة نظرى ان الخديوى إسماعيل كان يريد تطوير البلاد ولكن انتهاء الحرب الاهلية الاميريكية أدى إلى تراكم الديون على البلادنظرا لانخفاض اسعار القطن المصري في مواجهة نظيره الامريكى---->==اسراف إسماعيل== إذا لم تكن البلاد هي التي دعت إلي اقتراض تلك الملايين ففيم كانت تنفق إذن ؟ إن الجواب لا يحتاج إلي عناء كبير، فإن إسراف إسماعيل هو الباعث الأكبر على مأساة القروض.

إن الجانب السيئ من شخصية إسماعيل هو إسرافه وأنفاقه الأموال من غير حساب أو نظر في العواقب، وهو بلا مراء مضرب الأمثال في هذا الصدد، فقد كان متلافاً للمال، وظهر هذا العيب في حياته العامة، وحياته الخاصة، ظهر في بناء قصوره، وتأثيثها، وتجميلها، كما ظهر في حياته الخاصة، في حفلاته وأفراحه، ومراقصه، ورحلاته وسياحاته، وأهوائه وملذاته.

أمثلة من إسراف إسماعيل
بنى الخديوي إسماعيل نحو ثلاثين قصراً من القصور الفخمة، وكان دائم الرغبة في التغيير والتبديل، وكان بعض القصور التي يبنيها لا يكاد يتم بناؤها وتأثيثها حتى يعرض عنها ويهبها لأحد أنجاله أو حاشيته.
وذكر العلامة علي باشا مبارك عن قصري الجزيرة والجيزة: "أنهما من أعظم المباني الفخمة التي لم يُبن مثلها، وتحتاج لوصف ما اشتملت عليه من المحلات والزينة والزخرفة والمفروشات، وما في بساتينها من الأشجار والأزهار والرياحين والأنهار والبرك والقناطر والجبلايات إلي مجلد كبير"، وذكر عن أرض سراي الجزيرة أن مساحتها ستون فداناً، وأن ما صرف عليها على كثرته قليل بالنسبة لما صرف على سراي الجيزة، وكانت هذه السراي في منشئها قصراً صغيراً وحماماً بناهما سعيد باشا، ثم اشتراها إسماعيل من ابنه طوسون مع ما يتبعها من الأرض ومساحتها ثلاثون فداناً، ثم هدم هذا القصر وبناه من جديد وأضاف أليه أراضي أخرى، وأحضر المهندسين والعمال من الإفرنج لبناء القصر وملحقاته وانشأ بستانه العظيم وبستان الأورمان، وبلغت مساحة الأرض التي شغلها سراي الجيزة وسراي الجزيرة وحدائقها 465 فدان (خمسة وستين وأربعمائة فدان).

وذكر أن ما أنفق على إنشاء سراي الجيزة بلغ 1.393.374 جنيه
وسراي عابدين    565.570  جنيه
وسراي الجزيرة   898.691  "
وسراي الإسماعيلية (الصغيرة) 201.286  "
وباقي القصور     2.331.679      "
من ذلك سراي الرمل     472.399  "
وبالرغم مما وصلت أليه حالة الحكومة المالية من الارتباك وتوقفها عن الدفع في سنة 1876، فإن الخديوي استمر في تلك السنة يكمل سراي الجيزة الفخمة التي لم تتم إلا قبيل خلعه.
وتكلف تجميل هذه القصور وتأثيثها ما لا يحصى من الملايين، فقد بلغت النقوش والرسوم في قصور الجيزة والجزيرة وعابدين مليوني جنيه ونيفاً، وبلغت تكاليف الستارة الواحدة ألف جنيه، أما الطنافس والأرائك والأبسطة والتحف والطرف والأواني الفاخرة، فلا يتصور العقل مبلغ ما تكلفته من ملايين الجنيهات.

ومن أسباب إسراف إسماعيل ميله إلي الملذات، وهذه مسألة تعد مبدئياً من المسائل الشخصية، التي لا يصح التعرض لها، ولكن إذا تعدى أثرها إلي حياة الدولة العامة كانت من المسائل التي لا حرج من الخوض فيها، وقد تعرض لهذه الناحية الكتاب والمؤرخون حتى الذين كانوا من أصدقاء إسماعيل، ويلوح لنا أنها كانت من العيوب التي أخذت عليه وهو بعد أمير، قبل أن يتولى العرش، فقد ذكر المسيو فردينان دليسبس انه رآه في عهد سعيد قبل أن تؤول ولاية العهد، وكان عمره وقتئذ خمساً وعشرين سنة، وقال عنه أنه على جانب عظيم من الذكاء والحصافة والجاذبية، وأنه إذا لم ينهمك في ملذاته بمقدار ما هو عليه الآن (سنة 1854) فإنه سيعرف قدر نفسه يأتي منه النفع الكبير.
ومما يدعو إلي الأسف أن أمواله التي كانت تتدفق ذات اليمين وذات الشمال لم يكن ينال الوطنيين منها إلا النزر اليسير، بالنسبة لما ينال الأجانب الذين كانوا يحيطون به ويشملهم بثقته ورعايته، قال المسيو جابرييل شارم في هذا الصدد:

"كان إسماعيل يغترف المال من الخزانة العامة بكلتا يديه ليرضى أهواءه الشخصية فحسب، بل ليسد نهم الطامعين الملتفين حوله، فكم من الفرنسيين والإيطاليين والإنجليز كانوا تعساء في بلادهم، ثم نالوا بعد أن هبطوا مصر الرخاء والنعيم، لقد كان الخديوي مستعداً على الدوام أن يهبهم المراكز والقصور والمنح (البقاشيش)، أو يعهد إليهم بالتوصيات على التوريدات، وما كان أشد دهشة السياح إذ يرون في القاهرة أو الإسكندرية جماعة من الأوربيين ليس لهم من المزايا إلا مظهر الرجل الأنيق، يقومون بمهمة الموردين لنائب الملك (الخديوي)، ويربحون من هذه التجارة أرباحاً باهظة، لا يتصورها العقل، فليس ثمة وسيلة لجمع الثروة الطائلة أسهل من الحصول على عطاء تأثيث إحدى السرايا الخديوية، أو توريد بعض الصور أو التحف والطرف، وكم من أناس جاءوا من أوروبا مثقلين بالديون، فما كادوا يستقرون في القاهرة ويأوون إلي إحدى قاعات الانتظار في سراي عابدين، حتى صاروا طفرة من أصحاب الملايين ".

وقد فحصت لجنة التحقيق الأوربية سنة 1878 أسباب تراكم الديون والعجز في ميزانية الحكومة، فكشفت عن تصرفات مدهشة تدل على أقصى أنواع الإسراف والتبذير، فمن ذلك أن إحدى الأميرات من بيت إسماعيل بلغ المطلوب منها لخياط فرنسي 150 ألف جنيه، وأن مبالغ طائلة ضاعت في الآستانة دون أن تعرف أبواب إنفاقها، وأن الخديوي كان يشترك مع إسماعيل باشا صديق في مضاربات البورصة، وأن الحكومة أرادت يوماً أن تؤدي بعض ما عليها من الدين لأحد البنوك المحلية، فأعطته سندات من الدين الموحد قيمتها 230 ألف جنيه بحساب السند 31.5 جنيه، أو بعبارة أخرى لكي تسدد ديناً قدره 72 ألف جنيه حملت البلاد ديناً مقداره 230.000 جنيه.

وقد فحصت لجنة التحقيق قاعدة إسماعيل المتبعة، حتى في أعمال العمران، فقد اتفق مع شركة جرنفلد الإنجليزية على إصلاح ميناء الإسكندرية في مقابل 2.500.000 جنيه في حين أن أعمال الإصلاح لم تتكلف سوى 1.440.000 جنيه كما اعترف بذلك اللورد كرومر.

مراجع
عبد الرحمن الرافعي (عصر إسماعيل)
أحمد الحتة (تاريخ مصر الاقتصادي)
جمال حمدان (عبقرية مصر)         
                                                                                                                                                           لع إسماعيل ( 26 يونيو 1879 )
                                                                                                                  
الاخفاقات في عهد الخديوي  اسماعيل
أ. الإسراف في النفقات هو أحد أهم إخفاقات الخديوي إسماعيل. وكان يمكنه وضع نُظُم اقتصادية، تساير مطمعه في النهضة الكبرى.
ب. الضعف في مفاوضة الشركة الفرنسية، التي تولت شق القناة؛ والتهاون بحقوق مصر. لا، بل تشير التعويضات المصرية إلى تسلط الشركة، وعجز الحكومة عن مواجهتها. وكان ممكناً إلغاء عقد الشركة نفسه، لو صدقت الإرادة السياسية.

ج. مسارعة الخديوي إسماعيل إلى شراء موافقات السلطان العثماني بالأموال؛ ما أرهق مصر بإنفاق، لا لزوم له.
د. اهتمام الخديوي إسماعيل بالجيش، لم يدفعه إلى إلغاء ميزات الأتراك والشراكسة، على حساب المصريين.
خلع اسطاعيل باشا
وكأن انجلترا وفرنسا قد شعرتا بشىء من الخجل الاستعماري لرويتهما المانيا وهي أقل منهما مصالح ومطامع في مصر ، تسبقها إلي وجوب التدخل ، فعتزمتا ألا تقتصرا على فكرة الحكومة الألمانية في طلب نقد المرسوم الذي أصدره الخديوي ، بل عملتا على خلعه من العرش. وقد وجدنا الطريق أمامهما معبداً في الأستانة، فأن الحكومة العثمانية لم تكن تعطف على إسماعيل أو ترضى منه نزعته الاستقلالية ، وزين لها قصر النظر أن الالتجاء إليها لعزل الخديوي يكسبها نفوذاً كبيراً لم يكن لها منذ وطد محمد على دعائم الدولة المصرية، فليس يكفي أن الباب العالي لم يسبق أن عزل والياً من الأسرة المحمدية العلوية ، والفرمان الذي أصدره سنة 1840 بعزل محمد على قد بقي عديم الأثر ، ولم يحفل به محمد على ، فخلع إسماعيل هو الحادث الوحيد الذي ظهرت فيه سلطة الباب العالي في عزل الخديويين ، وهي سلطة تستهوي حكومة الأستانة التي لم تكن تنظر في العواقب ، وقد فات هذه الحكومة الحمقاء أن غقصاء إسماعيل عن الحكم وخلعه بإرادة الدول ، هو تمكين لهذه الدول من التدخل في شؤون مصر تحقيقاً لمطامعها الاستعمارية ، إذ لا يوجد تدخل أقوي من إسقاط صاحب العرش عن عرشه ، وهكذا كانت سياسة تركيا نحو مصر قائمة على سوء النية وقصر النظر.

فتركيا لم تخدم سياستها ، ولا خدمت مصر بإجابتها مطالب الدول ، وليس يخفى أن فرنسا لم تكن في إشتراكها وإنجلترا بعيدة النظر أيضاً لأنها لم تخدم المصالح الفرنسية ، بل مهدت الطريق لأنفراد إنجلترا بالتدخل في شؤون مصر واحتلالها على عهد الخديوي توفيق باشا.

سعت أذاً كل من إنجلترا وفرنسا سعيها في الأستانة للتخلص من إسماعيل ، فلما وجدت الدولتان أن الباب العالي مستعد لخلعه أتفقتا أولاً على أن تطلبا منه التنازل عن العرش من تلقاء نفسه اتبعأ لمشورتهما ، لتجعلا لنفسهما سلطاناً أقوى في مصير مصر ، إذ يكون التنازل قد تم بإرادتهما وتدخلهما ، فأرسلتا الى قنصليهما في مصر لأبلاغ الخديوى اتفاق الدولتين ، فقابله القنصلان وأبلاغاه رساله الحكومتين ، ومضمونها انهما تنصحان للخديوى رسميأ بالتنازل عن العرش ، والرحيل عن مصر وانهما متفقتان في حاله قبوله نصيحتهما على أن تضمنا له مخصصات سنويه لائقة به ، وان لا يحصل تغيير في نظام توارث العرش الذى يقضى بان يكون الأمير توفيق باشا خلفأ له ، فتأثر الخديوى بهذه الرساله تأثرأ عميقأ ، وشعر بالسهم المصوب الى مركزه ومصيره ، فطلب مهله يومين ليفكر في الأمر ، ولما أنقضى المعاد جاءه القنصلان ، يطلبان جوابه النهائى ، فأجابهما أنه عرض الأمر على السلطان وأنه ينتظر جوابه ، وجاءه قنصل المانيا وقنصل النمسا ، وطلبا إليه التنازل عن العرش مؤيدين طلب قنصلي إنجلترا وفرنسا ، وكان جوابه لهما مثل جوابه لزميليهما ، وكان إسماعيل يأمل من الأنتظار أن تختلف الدول في طلب خلعه ، وأن تنجح مساعيه الشخصيه لدى السلطان عبد الحميد ، وأذ اوفد إليه بلأستانة طلعت باشا أحد رجال حاشيته ليستميل رجال المابين إلي جانبه ، وزوده بالمال والرشا والهدايا ، ولكن السلطان أعرض ونأى بجانبه عنه ، وقد يكون لقلة المال المعروض دخل في هذا الإعراض ، وكانت الدول مجتمعه على التخلص منه وأستقر عزم السلطان على خلعه إجابه لطلب الدول ، وفي ليلة 24 يونيه ورد على المسيو تريكو قنصل فرنسا العام في مصر نبأ برقي من الأستانة ، فحواه أن الباب العالي عول على عزل الخديوي وتولية الأمير حليم باشا ( عبد الحليم ) مكانه ، وبالرغم من ورود هذا النباء في ساعة متأخرة بعد منتصف الليل ، دي سورما قنصل المانيا ، إلي سراي الخدوي وطلب مقابلته ، فأحدث مجيئهم في تلك الساعة المتأخرة من الليل انزعاجاً في السراي ، وخاصة بين السيدات من أل إسماعيل، وتوهمت والدة الخديوي أن سمة مكيدة تدبر لقتلة، فرجته أن لا يقابلهم ، ولكنه إذ علم أن القادمين هم قناصل إنجلترا وفرنسا والمانيا ، وأن شريف باشا كان معهم ، رضي بمقابلتهم ، وكان في حالة إضطراب شديد فطلب إليه القناصل أن يتنازل عن العرش ولكنه رفض وسبت على الإباء.

تمثال برونزي للخديوي اسماعيل بالإسكندرية. نحته پييترو كانونيكو(1869-1959). أزاح الستار عنه الملك فاروق في 4 ديسمبر 1938. وكان التمثال هدية من الجالية الإيطالية بالإسكندرية.
وكان يأمل حتى أخر لحظة أن تختلف الدول فيما بينهم ، أو يرفض السلطان النزول على رأيهن ، ولكن الدول بقيت على إجماعها في شئنه ، وما زال سفرائها في الأستانة يستعجلون قرار الخلع حتى نالوا بغيتهم ، وأصدر السلطان بناء على قرار مجلس الوزراء " إرادة " بخلع إسماعيل وتنصيب توفيق باشا خديوياً لمصر ، وطير الصدر الأعظم هذه الإرادة بالتلغراف إلي إسماعيل يوم الخميس 26 يونيه سنة 1879 ، وهذا تعريبها : " إلي سمو إسماعيل باشا خديوي مصر السابق.

إن الصعوبات الداخلية والخارجية التي وقعت أخيراً في مصر قد بلغت من خطورت الشأن حداً يؤدي استمراره إلي ايجاد المشاكل والمخاطر لمصر والسلطنة العثمانية ؛ ولما كان الباب العالي يرى أن توفير أسباب الراحة والطمئنينة للأهالي من أهم واجباته ومما يقضيبه الفرمان الذي خولكم حكم مصر ، ولما تبين أن بقائكم في الحكم يزيد المصاعب الحالية ، فقد أصدر جلالة السلطان إرادته بناء على قرار مجلس الوزراء بأسناد منصب الخديوية المصرية إلي صاحب السمو الأمير توفيق باشا وأرسلت الإرادة السنية في تلغراف أخر إلي سموه بتنصيبه خديوياً لمصر ، وعليه ادعو سموكم عند تسلمكم هذه الرسالة إلي التخلي عن حكم مصر احتراماً للفرمان السلطاني "

وصلت هذه الرسالة التلغرافية إلي سراي عابدين في ضحى ذلك اليوم ، وتسلمها أولاً ذكي باشا السر تشريفاتي ، وكان معه في حجرته بالدور الأول من السراي خيري باشا المهر دار " حامل الختم " ، وبعض كبار الموظفين ، فلما رأوا الرسالة مصدره بعنوان إسماعيل باشا " خديوي مصر السابق " ، وجفت قلوبهم ، وعلاهم الأضطراب والاصفرار ، وفهموا أنها تحوي شراً مستطيراً ، وحاروا في طريقة إلي الخديوي ، الذي كان وقتئذ بالدور الثاني ، فامتنع ذكي باشا عن أن يحملها إليه ، واحال هذه المهمة إلي المهر دار ، فأبا خيري باشا قائلاً أن هذا من شأن الوزراء ، وبينما هما يتجادلان ، أقبل شريف باشا رئيس الوزراء ، فسلمت إليه الرسالة ، وأدرك ما تحويه ، فرأى من واجبه أن يحملها بنفسه إلي الخديوي ، فصعد إلي الطابق الثاني وقابل إسماعيل وسلمه الرسالة ، ففضها وتلاها ، وعلم فحواها ، فقابلها بالصمت والجلد ، وطلب إلي شريف باشا أن يدعوا إليه الأمير توفيق باشا فوراً.

فخرج شريف من حضرة " الخديوي السابق " ، ليقابل الخديوي الجديد وذهب إليه في سراي الأسماعيلية ، وكان توفيق باشا قد تلقى الرسالة البرقية الأخرى بأسناد منصب الخديوية إليه ، فذهب الأمير إلي سراي عابدين يصحبه شريف ، وصعد وحده إلي الطابق الثاني فتلقاه أبوه مخاطباً إياه " يا أفندينا " وسلمه سلطة الحكم ، وكان الموقف مؤسراً ، ثم ترك إسماعيل قاعة العرش ، ودخل دار الحرم ، تكتنفه الهموم والأحزان. وفي اليوم نفسه في منتصف الساعة السابعة مساءً أقيم حفل تولي الخديوي توفيق باشا في سراي القلعة، واستقبل فيها وفود المهنئين وأخذ إسماعيل يتأهب للرحيل عن البلاد.
رحيله إلي منفاه ( 30 يونيو 1879 )
وحدد يوم الأثنين 30 يونيه للرحيل عن الديار المصرية ، وقضى إسماعيل هذه الأيام الثلاث يستعد للسفر ، ويجمع ما استطاع أخذه من المال والمجوهرات والتحف الثمينة من القصور الخديوية ونقلها إلي الباخرة ( المحروسة ) التي كانت معدة لركوبه بالإسكندريه وكان يوم رحيله يوماً مشهوداً ، أذ ازدحمت سراي عابدين منذ الصباح بالكبراء والذوات الذين جاءو يودعون الخديوي السابق ، وفي منتصف الساعة الحادية عشر أقبل الخديوي توفيق على أبيه يودعه ، وعند الساعة الحادية عشر خرج الخديوي السابق متوكئاً على نجله ودلائل الحزن بادية عليه ، وركب العربة وجلس توفيق باشا على يساره ، وركب بعدهما الأمراء والكبرء ، وسار الموكب حتى بلغ محطة العاصمة وكان الجند مصطفين على الجانبين تحيي للخديوي السابق.

ولما بلغ الركب المحطة ترجل إسماعيل باشا ووقف توفيق باشا يودعه وعيناه مغرورقتان بالدموع وكان إسماعيل شديد التأثر من هذا المنظر ، منظر رحيله النهائي عن القاهرة التي كانت مسرحاً لمجده وبذخه وسلطانه السنين الطوال ، فوقف يخطب الحاضرين خطاباً مؤثراً ثم التفت إلي نجله وودعه قائلاً : " لقد اقتضت إرادة سلطاننا المعظم أن تكون يا اعز البنين خديوي مصر ، فأوصيك بأخوتك وسائر الآل براً ، واعلم أني مسافر وبودي لو استطعت قبل ذلك أن ازيل بعض المصاعب التي أخاف أن توجب لك الارتباك ، على أني وأثق بحزمك وعزمك ، فتبع رأي ذوي شوراك ، وكن أسعد حال من ابيك " ، وقال الذين شهدو هذا المنظر أنه ابكاهم جميعاً.

ثم ركب القطار الخاص ، فبلغ الإسكندرية في الساعة الرابعة بعد الظهر واستقبله فيها في محطة القباري محافظ الثغر ، وبعض الرؤساء والكبراء ، وركب الزورق المعد له ، وتبعته زوارق المشيعين ، وسار حتى أستقل الباخرة ( المحروسة ) ، ولما وصل إليها أطلقت المدافع إذاناً بوصوله ورفعت البوارج الحربية أعلامها تحية له ، وأستقبل على ظهر الباخرة بعض المشيعين الذين جاءو يودعونه الوداع الأخير.

ولم يملك إسماعيل صبره ، فترك مشيعيه بعد أن ودعهم ، ونزل إلي غرفته بالباخرة ، ثو غادرها المودعون ، وبعد هنيهة أقلعت ( المحروسة ) وأخذت تشق عباب الماء حتى غابت عن الأبصار ، ومالت شمس النهار أذ توارت بالحجاب ، فغربت معها شمس إسماعيل ، وسارت الباخرة إلي ( نابلي ) تحمل العاهل الذي قضى سبعة عشر عاماً يحكم مصر بمطلق إرادتة ، ثم أنهر بأن فقد عرشه وملكه وماله ، وكم من مرة أقلته ( المحروسة ) من قبل في أبان مجده ، وشهدت رحلاته إلي الأستانة وإلي أوربا ، حين كان يروح ويغدو تحفه المهابة والجلالة ، وتعني له الأماني والآمال ثم حملته للمرة الأخيرة بعد ان نزل عن عرشة ، وطويت صفحته ، وقضي عليه بالنفي والحرمان ، فكانت خاتمتة إحدي عبر الزمان.
وليس يسعى الكاتب المنصف إلي أن يشعر بالعطف على إسماعيل والأعجاب بما أبداه من الشجاعة والإباء بالازمة التي أنتهت بنزولة عن العرش ورحيله إلي منفاه ، فقد كان حقاً عظيماً في موقفه ، شجاعاً في محنته وناهيك بشجاعته جعلته يغامر بعرشه في سبيل مقاومة الدول الأوربية جمعاء ، فلو هو أرتضى الذل والهوان ، وأذعن لمطالب الدول ، وقبل عودة الوزيرين الأوربيين يسيطران على حكومة مصر ومصيرها ، لضمن لنفسه البقاء على عرشه ، ولكن أثر المقاومة على الأستمساك بالعرش ، وقليل من الملوك والأمراء من يضحون بالعرش في سبيل المدافعة عن حقوق البلاد ، فالصفحة التي انتهى بها حكم إسماعيل هو بلامراء من الصحائف المجيدة في تاريخ القومية ، لأنها صفحة مجاهدة واباء وتضحية ، وهى لعمرى تضحية كبرى، لأن عرش مصر وتاجها وصولجانها ليست من تلأمور الهينه التى يسهل على النفوس العاديه أن تزهد فيها ، أو تغامر بها، ولكن إسماعيل ضحى بها في سبيل مقاومة المطامع الستعمارية ، واهذه التضحية حقها من الإعجاب والتمجيد. ومن يتأمل في هذه المأساة لا يسعه إلا أن يألم لمصير إسماعيل ، فقد كان جديراً بخير من هذا المصير، كما أن مصر قد تكون أسعد حظا لو بقي على عرشه ، فإنه في السنوات الأخيرة من حكمة أخذ يطرح الأغلاط القديمة ، ويوجه مواهبه العالية إلى إنقاذ مصر من التدخل الأجنبي ، وكان له من ذكائه ومضاء عزيمته وتجاربه الماضية ما يكفل له التوفيق والسداد ، ولكن المآرب الاستعمارية ، والدسائس الإنجليزية والفرنسية ، ألقت العقبات في طريقه ، ومازالت تناهضه وتغالبه ، حتى غلبته على أمره ةاقضته عن عرشه. وبذلك انسدل الستار على الفصل الأخير من حكم إسماعيل.
إسماعيل في منفاه
وصل إسماعيل باشا إلي نابولي بإيطاليا حيث أعد له الملك امبرتو قصراً لسكناه ، فأقام به هو وزوجاته وانجاله وحاشيته ، واخذ يتنقل بين مختلف العواصم الأوربية ، ولم تفارقه آماله في العودة إلى عرش مصر ، وسعى إلى ذلك سعياً حثيثا ولكنه أخفق في مساعيه ثم سكن الاستانة منذ سنة 1888 ، وأقام بقصره بيركون على البوسفور، وظل مقيما فيه.

وفاته
إلي أن وافته منيته يوم 2 مارس سنة 1895 ، وله من العمر خمس وستون سنة ، فنقل جثمانه إلي مصر ، ودفن في مسجد الرفاعي بالقاهرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق